وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
يريد وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملّكا أبو أمه أبوه؛ وهو خاله، فلما استعمل فيه التقديم والتأخير في غير موضعه جاء مشوّها رثّا كما تراه. قال الوزير «ضياء الدين بن الأثير» : وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا كأنه يقصد ذلك ويتعمّده لأن مثله لا يجيء إلا متكلّفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيّتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد؛ ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى؛ فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به. ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.
[الصنف الثالث ما كان مستقيما ولكنه كذب كقولك حملت الجبل، وشربت ماء البحر، وما أشبه ذلك]
واعلم أن المعاني المستعملة في الشعر والكتابة أكثرها جار على هذا الأسلوب خصوصا المعاني الشعريّة، فإنه مقدّمات تخييلية توجب في النفس انقباضا وانبساطا على ما هو مقرّر في علم المنطق. وقد قال في «الصناعتين» :
إن أكثر الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة، والألفاظ الكاذبة: من قذف المحصنات، وشهادة الزّور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهليّ الذي هو أقوى الشعر وأفحله. قال: وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سوّغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه. وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب في شعره، فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصدق يراد من الأنبياء عليهم السلام.
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع رحمه الله في كتابه «تحرير