التحبير» «١» : وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون إن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجّون بما جرى للنابغة الذبيانيّ مع حسان بن ثابت رضي الله عنه في استدراك النابغة عليه تلك المواقع الحجية في قوله:
لنا الجفنات «٢» الغرّ يلمعن بالضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة؛ والقصة مشهورة. قال:
والصواب مع حسان وإن روي عنه انقطاعه في يد النابغة؛ وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام، ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على منهج الحق؛ ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى، أو يفرّع معنى من معنى؛ أو يحلي كلامه شيئا من البديع، أو ينتخب ألفاظا موصوفة بصفات الحسن، ويجيد تركيبها، فإذا عجز عن ذلك كله عدل إلى المبالغة يسدّ بها خلله ويتم نقصه؛ لما فيها من التهويل على السامع، ويدّعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حدّ الإمكان إلى حدّ الامتناع. قال: وعندي أن هذين المذهبين مردودان، أما الأوّل فلقول صاحبه إن خير الكلام ما بولغ فيه، وهذا قول من لا نظر له، لأنا نرى كثيرا من الكلام والأشعار جاريا على الصدق المحض خارجا مخرج البحث، وهو في غاية الجودة، ونهاية الحسن، وتمام القوّة؛ وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تحصر ضروبها؛ فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر ضروب المحاسن على كثرتها! وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان، ومن كان مذهبه توخّي الصدق في شعره غالبا، ليس فوق أشعارهم غاية لمترقّ، ألا ترى إلى قول زهير:
ومهما يكن عند امرىء من خليقة ... وإن حالها تخفى على الناس تعلم