[الوجه الثاني الألفاظ المفردة، وبيان ما ينبغي استعماله منها، وما يجب تركه]
إعلم أن الذي ينبغي أن يستعمل في النظم والنثر من الألفاظ هو الرائق البهج الذي تقبله النفس، ويميل إليه الطبع، وهو الفصيح من الألفاظ دون غيره.
والفصيح في أصل اللغة هو الظاهر البيّن، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر وبان ضوؤه، وأفصح اللبن إذا تجلت عنه رغوته وطهر، وأفصح الأعجميّ وفصح إذا أبان بعد أن لم يكن يبين، وأفصح الرجل عما في نفسه إذا أظهره.
قال في «المثل السائر» : وأهل البيان يقفون عند هذا التفسير، ولا يكشفون عن السر فيه. قال: وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة، لأنه يلزم أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بيّنا لم يكن فصيحا جيّدا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا؛ على أنه قد يكون اللفظ ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو، فيكون فصيحا عند واحد دون آخر، وليس كذلك؛ بل الفصيح ما لم يختلف في فصاحته، لأنه إذا تحقق حدّ الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ المختص بها خلاف؛ وأيضا فإنه لو جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بيّن، فينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك؛ لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبحه.
قال: وتحقيق القول في ذلك أن يقال: الكلام الفصيح هو الظاهر البيّن، والظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتب لغة؛ وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر، دائرة في كلامهم؛ وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللّغة باعتبار ألفاظها، وسبروا وقسّموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه؛ فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها؛ فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن. ثم قال:
والمرجع في تحسين الألفاظ وقبحها إلى حاسة السمع، فما يستلذه السمع منها