تحسين اللفظ، أنّ الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه، على فضل قائله، وفهم منشئه؛ وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني، وتوخّي صواب المعاني أحسن من توخّي هذه الأمور في الألفاظ؛ فلهذا يتأنّق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطبة، والشاعر في القصيدة، ويبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلّوا على براعتهم، وحذقهم بصناعتهم؛ ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كدّا كثيرا، وأسقطوا عن أنفسهم تعبا طويلا؛ وأيضا فإن الكلام إذا كان لفظه حلوا عذبا، وسلسا سهلا، ومعناه وسطا، دخل في جملة الجيّد، وجرى مع الرائع النادر كقول الشاعر:
ولما قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشدّت على حدب المهارى رحالنا ... ولم «١» ينظر الغادي الذي هو رائح
وليس تحت هذه الألفاظ كثير معنى، وهي رائقة معجبة، وإنما هي: ولما قضينا الحجّ، ومسّحنا بالأركان، وشدّت رحالنا على مهازيل الإبل، ولم ينتظر بعضنا بعضا، جعلنا نتحدّث وتسير بنا الإبل في بطون الأودية؛ وإذا كان المعنى صوابا واللفظ باردا فاترا كان مستهجنا ملفوظا، ومذموما مردودا، كقول أبي العتاهية في أبي عثمان سعيد بن وهب «٢» .
مات والله سعيد بن وهب ... رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي