وهي على ضفّة العاصي مكينة البناء، ولها سور جليل، وبيوت ملوكها وشرفاتها مطلة على النهر العاصي؛ وبها القصور الملوكية، والدور الأنيقة والجوامع والمساجد والمدارس والرّبط والزوايا والأسواق التي لا تعدم نوعا من الأنواع؛ وبها قلعة مبنية بالحجارة الملونة؛ وغالب مبانيها العلية، وآثار الخير والبرّ الباقية فيها من فواضل نعم الدولة الأيوبية؛ وبها نواعير مركّبة على العاصي، تدور بجريان الماء، وترفع الماء إلى الدّور السلطانية ودور الأمراء والأكابر والبساتين؛ وفي بساتينها الغراس الفائق والثمار الغريبة؛ ولم يكن لها في القديم نباهة ذكر، وكان الصّيت لحمص دونها، ثم تنبه ذكرها في الدولة الأتابكية زنكي؛ فلما آلت إلى ملوك بني أيوب مصّروها «١» بالأبنية العظيمة، والقصور الفائقة، والمساكن الفاخرة، وتأمير الأمراء، وتجنيد الأجناد فيها؛ وعظّموا أسواقها وزادوا في غراسها، وجلبوا إليها من أرباب الصنائع كلّ من فاق في فنّه إلى أن كملت محاسنها، وصارت معدودة من أمهات البلاد وأحاسن الممالك؛ وهي في غاية رفاهة العيش إلا أنها شديدة الحرّ محجوبة الهواء، ويعرض لها في الخريف تغير تنسب به إلى الوخامة، ولا يبقى بها الثلج إلى الصيف كما يبقى في بقية الشام، وإنما يجلب إليها مما يجاورها؛ وحولها مروج فيح ممتدّة يكثر فيها مصايد الطير والوحش؛ وليس بالممالك الشامية بعد دمشق لها نظير، ولا يدانيها في لطف ذاتها من مجاورتها قريب ولا بعيد. قال في «الروض المعطار» : وبينها وبين حمص أربعون ميلا، ولم تزل بأيدي بقايا الملوك الأيوبية من جهة صاحب مصر، يقيم ملوكهم فيها ملكا بعد ملك إلى أن كان بها منهم آخر الأيام الناصرية محمد بن قلاوون المتقدّم ذكره، واستقرّ فيها بالأمير «٢» طغيتمر الحمويّ: أحد مقدّمي الألوف بالديار المصرية نائبا؛ واستمرت بأيدي النوّاب يليها مقدّم ألف بعد مقدّم ألف إلى الآن.