وفي داخلها كنيسة طولها ثلاثمائة ذراع وارتفاعها مائتا ذراع، لها أربعة أبواب من فضّة سبكا واحدا، مسقّفة بالنحاس الأصفر الملصق بالقصدير، وحيطانها ملبّسة بصفائح النّحاس، وبها كنيسة أخرى بها برج طوله في الهواء مائة ذراع، وعلى رأس ذلك البرج قبّة مبنية بالرّصاص، وعلى رأس القبة زرزور من نحاس إذا أدرك الزيتون انحشرت إليه الزّرازير من الأقطار البعيدة، في منقار كل زرزور زيتونة وفي رجليه زيتونتان، فيطرحها على ذلك البرج فيعصر ويؤخذ زيته، فيستصبح به في الكنيسة جميع السنة. قال: وأهل رومية أجبن خلق الله تعالى، ومن سنّتهم أنهم لا يدفنون موتاهم، وإنما يدخلونهم في مغائر «١» ويتركونهم فيها فيستوبيء هواؤهم ويقع الذّباب على الموتى، ثم يقع على ثمارهم فيفسدها، ولذلك هم أكثر بلاد الله تعالى طواعين، حتّى إن الطاعون يقع فيها ولا يتعدّاها إلى غيرها فوق عشرين ميلا، وجميع أهلها يحلقون لحاهم، ويزعمون أن كلّ من لا يحلق لحيته فليس نصرانيّا كاملا، زاعمين أن سبب ذلك أن شمعون الصفا والحواريّين جاءوهم وهم قوم مساكين ليس مع كل واحد منهم إلا عصا وجراب، فدعوهم إلى النّصرانية فلم يجيبوهم، وأخذوهم فعذّبوهم وحلقوا رؤوسهم ولحاهم. فلما ظهر لهم صدق قولهم واسوهم بأن فعلوا بأنفسهم مثل ذلك.
ولم تزل رومية هي القاعدة العظمى للرّوم حتّى بنيت القسطنطينيّة وتحوّل إليها قسطنطين، وصارت قسطنطينيّة هي دار ملك الروم على ما تقدّم ذكره في الكلام عليها، مع بقاء رومية عندهم على رفعة المحلّ وعظم الشأن إلى أن غلب عليها الفرنج وانتزعوها من أيديهم، ورفعوا منها قواعدهم واستولوا على ما وراءها من النواحي والبلدان والجزائر: كجنوة، والبندقيّة، وأقريطش، ورودس، واسترجعوا كثيرا مما كان المسلمون استولوا عليه من بلاد الروم كغالب الأندلس.
ثم حدثت الفتن بينهم وبين الروم بالقسطنطينيّة، وعظمت الفتن بينهم ودامت نحوا من مائة سنة «وملك الروم بالقسطنطينيّة معهم في تناقص» حتّى إن رجّار