الدّيلم على الأمر، وغلبوا على الخلفاء، واستبدّوا عليهم احتجبت الخلفاء ولم يبق إليهم فيما يكتب عنهم غالبا سوى الولايات، وفوّض الأمر في غالب المكاتبات إلى وزرائهم، وصارت الحال إذا اقتضت ذكر الخليفة كني عنه ب «المواقف المقدّسة» و «المقامات الشريفة» و «السرّة النبويّة» و «الدار العزيزة» و «المحل الممجّد» يعنون «بالمواقف» الأماكن التي يقف فيها الخليفة، وكذلك المقامات، وبالسرة الأنماط التي يجلس عليها الخليفة، و «بالدار» دار الخلافة، و «بالمحل» محلّ الخليفة. قال في «ذخيرة الكتّاب» : وليت شعري أيّ شيء قصد من كنى عن أمير المؤمنين بهذه الكنايات، وبدّل نعوته وصفاته المعظمة المكرّمة بهذه الألفاظ المحقّرات؟ وإذا استجيز ذلك ورضي به وأغضي عنه كان لآخر أن يقول «المجالس الطاهرة» و «المقاعد المقدّسة» و «المراكب المعظّمة» و «الأسرّة الممجّدة» وما يجري هذا المجرى مما ينبو عنه السمع وينكره لاستحداثه واستجداده. على أنه لو توالى على الأسماع كتوالي تلك الألفاظ لم تنكره بعد إذ لا فرق. قال: ولم يستسنّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا اختاره لنفسه، ولا استحدثه الخلفاء من بعده. فما وجه العمل بموضعه والاقتفاء لأثره؟
وكيف يجوز أن يكنى عن الجمادات، بما يكنى به عن الإنسان الحيّ الناطق الكامل الصفات. ولما انتهى الحال بالخلفاء إلى التعظيم بهذه الألقاب والنعوت المستعارة، تداعى الأمر إلى تعظيم الملوك والوزراء بالتلقيب ب «المجلس العالي» و «الحضرة السامية» وما أشبه ذلك. قال: وهذا مما لم يكن في زمان، ولا جرى في وقت، ولا كتب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا استعمله الخلفاء بعده. ثم تزايد الحال في ذلك إلى أن كنوا ب «المقام» و «المقرّ» و «الجناب» و «المجلس» ونحو ذلك على ما سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما مجاوزتها الحدّ في الكثرة، فقد تقدّم أن اللقب الواحد كان يلقّب به الشخص دون تعدّد ألقاب، إلى أن وافت أيام القادر بالله «١» والتلقيب بالإضافة إلى