والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من أمن بلاد الحرمين؛ فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال من النّصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإنّ بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما. وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه؛ والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسوا الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت «١» الأرض وبلغت الجبال طولا؛ والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات، فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزمان وقد يحرز الحظّ المكاثر؛ وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها، ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من ثقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها؛ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«٢» .
والحمد لله ربّ الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث؛ فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه؛ والآن فالمجلس- أسماه الله- يعلم أن الفرنج لا يسلون «٣» عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنهم- خذلهم الله- أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا «٤» ، ويطمع في كل مدينة كسبا؛ ويد الله فوق أيديهم، والله محيط