قلت: ومملكة الديار المصرية من حين الفتح الإسلاميّ وهلمّ جرّا إلى زماننا دائرة بين هذه الأقسام الثلاثة، لا تكاد تخرج عنها؛ فكانت في بداية الأمر «إمارة استكفاء» يولّي عليها الخليفة في كلّ زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرّف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقف عند حدّ ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنّواهي، إلّا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان. فلمّا استولى عليها الفاطميّون واستوزروا أرباب»
السّيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها «وزارة تفويض» . وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرّف في المملكة كالملوك الآن أو قريب منهم. وكانوا يلقّبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أوّل من لقّب بالملك منهم فيما ذكره المؤيّد صاحب حماة في تاريخه. والملك الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفائز ثم العاضد.
والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب وزير العاضد أيضا، قبل أن يستقلّ بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العبّاس ببغداد. ولا نكر في تسمية الوزير ملكا، فقد قيل في قوله تعالى في قصّة يوسف عليه السّلام: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
«٢» إنّ المراد بالملك الوزير لا الملك نفسه. ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيّوب «٣» ، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العبّاس، صارت «إمارة استيلاء» لاستيلائهم عليها بالقوّة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده. وكان الرشيد قد لقّب «جعفر بن يحيى البرمكيّ» في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس في التلقيب به. فلمّا تغلّب الملوك بالشّرق على الخلفاء واستبدّوا عليهم، صار لقب السلطان سمة لهم،