فإنّا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدنا، وغيرنا يستمير، ونلقى السّهام بنحورنا، وغيرنا يغيّر التصوير، ونصافح الصّفاح بصدورنا، وغيرنا «١» يدّعي التصدير، ولا بدّ أن نستردّ بضاعتنا، بموقف العدل الذي تردّ به الغصوب، ونظهر طاعتنا، فنأخذ بحظّ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب؛ وما كان العائق إلا أنّا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإيجابا للحق، يشاكل إيجابنا للسّبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا، وروضها بغير غرس مطفلا.
كان أوّل أمرنا أنا كنّا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفّار متقدّمين لعساكره نحن ووالدنا وعمّنا؛ فأيّ مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدوّ كسر، أو مصافّ للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدوّ، أنّا نصطلي الجمرة، ونملك الكسرة، ونتقدّم الجماعة، ونرتّب المقاتلة، وندبّر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرّنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتّصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النّظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كلّ قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبّرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأنّ كلمة السّنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسمّاة، فإنّها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضّلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللّحم والدّم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتّخذ من دون الله تعظّم وتفخّم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلّب الذين كفروا في البلاد.