في غاية من البلاغة، وعلوّ الرّتبة في الصّنعة. ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريريّ «١» ، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، وأتت على الجزء الوافر من الحظّ، وأقبل عليها الخاصّ والعامّ، حتّى أنست مقامات البديع وصيرّتها كالمرفوضة. على أن الوزير ضياء الدّين بن الأثير في «المثل السّائر» لم يوفّه حقّه، ولا عامله بالإنصاف، ولا أجمل معه القول، فإنه قد ذكر أنه ليس له يد في غير المقامات، حتّى ذكر عن الشيخ أبي محمد أحمد بن الخشّاب أنه كان يقول: إن الحريريّ رجل مقامات، أي إنّه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا. وذكر أنه لما حضر بغداد، ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر وكلّف كتابة كتاب فأفحم، ولم يجر لسانه في طويله ولا قصيره، حتّى قال فيه بعضهم:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وفي ... بغداد أضحى الملجوم بالخرس