المجازاة. والشّكر من أكبر أبواب الأمانة، وأبعده من أسباب الخيانة؛ ولن يبلغ أحد في ذلك غاية المجد إلا بمعونة الطمع، وإلا الحرب سجال بينهما، والظّفر مقسوم عليهما. كذلك حكم الأشياء إذا تساوت في القوّة، وتقاربت في بلوغ المدّة. وقد زعم ناس أن الشّاكر والمنعم لا يستويان، كما أن الباديء بالظّلم والمنتصر لا يعتدلان، لأنّ الباديء أخذ ما ليس له، والمنتصر لم يتجاوز حقّه الذي هو له، ولأن الباديء لم يكن مهيّجا على الظّلم بعلّة جناها المنتصر، والمنتصر مهيج على المكافأة بعلّة جناها الباديء، والمثوّر للطباع المغضب، والمستخفّ المهيّج أعذر من السّاكن الوادع المطمئن.
فلذلك قالوا: إن الباديء أظلم، والمنتصر أعذر. وزعموا أن المنعم هو الذي أودع صدر الشاكر المحبّة بإنعامه عليه، وهيّجه بذلك على مكافأته لإحسانه إليه، فقد صار المنعم شريك الشّاكر في إحسانه، وتفرّد بفضل إنعامه دون مشاركة غيره؛ والمنعم هو الذي دفع للشاكر أداة الشّكر، وأعاره آلة الوفاء، فهو من ههنا أحقّ بالتقديم، وأولى بالتّفضيل.
هذا، وقد قال بعض الحكماء والأدباء والعلماء: من تمام كرم المنعم التّغافل عن حجّته، والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته، لأن المحاجّة مغالبة، ولا تتمّ مودّة إلا مع المسامحة. ولذلك قال الرّبعيّ لناس من العرب يختصمون:
هل لكم في الحقّ أو خير منه؟ قالوا: قد عرفنا الحقّ، فما الذي هو خير منه؟
قال: التّغافل فإنّ الحقّ مرّ. ألا ترى إلى بنت هرم بن سنان لما قالت لابنة زهير بن أبي سلمى في بعض المناحات، أو في بعض المزاورات: إنّه ليعجبني ما أرى من حسن شارتكم، ونقاء نفحتكم. قالت ابنة زهير: أما والله لئن قلت ما قلت، فما ذلك إلا من فضول ما وهبتم، ومن بقايا ما أنعمتم. قالت بنت هرم: لا بل لكم الفضل، وعلينا الشّكر؛ أعطيناكم ما يفنى، وأعطيتمونا ما يبقى. وقيل لعبد الله بن جعفر حين أجزل لنصيب الشّاعر في الهبة، وكثّر له في العطيّة: أتنيل هذا العبد الأسود كلّ هذا النّيل، وتحبوه بمثل هذا الحباء؟ فقال عبد الله بن جعفر: أما والله لئن كان أسود الجلد إنه