وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني، يقولون: لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة؛ فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ، ولم يعتنوا بالمعاني إعتناءهم بالألفاظ. فلم يكفهم جهلهم فيما أرتكبوه حتّى ادّعوا الأسوة بالعرب فيه فصارت جهالتهم جهالتين. قال: ولم يعلموا أن العرب، وإن كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذّبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدرا في نفوسها.
ولما كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها، وزيّنوها وبالغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدّلالة على القصد. ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذّ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع؛ فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورقّقوا حواشيها وصقلوا أطرافها، فلا تظنّ أن العناية أذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، فصار ذلك كإبراز صورة الحسناء في الحلل الموشّاة والأثواب المحبّرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما شوّه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه.
قال أبو هلال العسكري رحمه الله: ومن عرف ترتيب المعاني واستعمل الألفاظ على وجوهها بلغة من اللّغات ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعة الكلام ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسيّ، وحوّلها إلى اللسان العربيّ. فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من تكمّل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال.
قال في «المثل الثائر» : واعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان؛ غير أن الحصر كليّ لا جزئيّ، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرّع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدويّ