ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتّى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره، وصار لصناعة الإنشاء اسمان: خاصّ يستعمله أهل الديوان ويتلفّظون به وهو كتابة الإنشاء، وعامّ يتلفظ به عامّة الناس وهو التّوقيع، فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها، وهو مصدر أنشأ الشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه، بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلّفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما، أو أنّ المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه.
وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها، كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتّاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصّة بسببها، ثم أطلق على كتابة الإنشاء جملة.
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتّاب: ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف، يقال: جنب هذه الناقة موقّع إذا أثّرت فيه حبال الأحمال تأثيرا خفيفا. وحكي أنّ أعرابيّة قالت لجارتها «حديثك ترويع وزيارتك توقيع» تريد أن زيارتها خفيفة. قلت: ويحتمل أن يكون من قولهم:
وقع الأمر إذا حقّ ولزم، ومنه قوله تعالى وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا
«١» أي حقّ، أو من قولهم: وقّع الصّيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته «٢» يجلوه لأنه بتوقيعه في الرّقعة يجلو اللّبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة، أو من موقعة الطائر- وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقّع على الرقعة يألف مكانا منها يوقّع فيه كحاشية القصّة ونحوها، أو من الموقعة بالتسكين: وهو المكان