صليني وهذا الحسن باق فربّما ... يعزّل بيت الحسن منه ويكنس
فلما وقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذا القصيدة كتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل: وما قلت هذه الغاية، إلا وتعلمني أنها البداية، ولا قلت هذا البيت آية القصيدة إلا تلا ما بعده: وما نريهم من آية. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام، وتقصير الأنام، وإلا فقد لهج الناس بما تحتها، ودوّنوا ما دونها، وشغلوا التصانيف والخواطر والأقلام بما لا يقاربها، وسارت الأشعار وطالت بما لا يبلغ مدّها ولا نصيفه؛ والقصيدة فائقة في حسنها، بديعة في فنّها؛ وقد ذلّت السين فيها وانقادت، فلو أنها الراء لما رادت؛ وبيت يعزّل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة، فإن لفظة الكنس غير لائقة في مكانها.
فأجابه ابن سناء الملك قائلا: وعلم المملوك ما نبه عليه مولانا من البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة، وقد كان المملوك مشغوفا بهذا البيت، مستحليا له متعجبا منه، معتقدا أنه قد ملّح فيه، وأنّ قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه، وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز في قوله:
وقوامي مثل القناة من الخط ... وخدّي من لحيتي مكنوس
والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثّر، ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر؛ ولا آنس ناره إلا لمّا وجد عليها هدى، ولا مال المملوك إلا إلى طريق من ميّله إليه طبعه؛ ولا سار قلبه إلا إلى من دلّه عليه سمعه؛ ورأى المملوك أبا عبادة «١» قد قال:
ويا عاذلي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنّب
تحاول منّي شيمة غير شيمتي ... وتطلب منّي مذهبا غير مذهبي