وقال أبو داود: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر الألفاظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه، وما كان من الكلام لفظه سهلا ومعناه مكشوفا بيّنا فهو من جملة الرديء المردود، لا سيما إذا ارتكبت فيه الضرورات؛ فأما الجزل المختار من الكلام، فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها؛ وأجود الكلام ما كان سهلا جزلا، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مستكرها، ومتوعّرا متقعّرا؛ ويكون بريئا من الغثاثة، عاريا من الرّثاثة. فمن الجزل الجيّد من النثر قول سعيد بن حميد: وأنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهته، ولا يستدعي برّك إلا من طريقته، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم؛ نبت بي عنك غرّة «١» الحداثة وردّتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيّام، وقادتني إليك الضرورة، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدّد النعمة باطّراح الحقد، فإنّ قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة؛ وإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، فعلت إن شاء الله تعالى.
وأجزل منه قول الشعبيّ للحجاج وقد أراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث: أجدب بنا الجناب «٢» ، وأحزن بنا المنزل فاستحلسنا «٣» الحذر، واكتحلنا السّهر، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. فعفا عنه.
ومن النظم قول المرّار:
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... قد يقتر المرء يوما وهو محمود