للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأجاب من يرى التغليس أفضل عن هذا بأجوبةٍ:

منها: تضعيفه، وسلك ذلك بعض أصحابنا الفقهاء، وسلكه ابن عبد البر، … ، ومنها: تأويله، واختلف المتأولون له: فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيره: المراد بالإسفار: أن يتبين الفجر ويتضح، فيكون نهياً عن الصلاة قبل الوقت، وقبل تيقن دخول الوقت. وذكر الشافعي: أنه يحتمل أن بعض الصحابة كان يصلي قبل الفجر الثاني، فأمر بالتأخير إلى تبين الفجر وتيقنه.

ورد ذلك بعضهم بأن قوله: "فَإِنَّهُ أَعْظَمُ للأَجْرِ" يدل على أن في ترك هذا الإسفار أجراً، ولا أجر في الصلاة قبل وقتها إلا بمعنى أنها تصير نافلة.

ومنهم من قال: أُمِرُوا أن لا يدخلوا في صلاة الفجر حتى يتيقنوا طلوع الفجر، وقيل لهم: هو أفضل من الصلاة بغلبة الظن بدخوله.

وقال آخرون: بل الإسفار يكون باستدامته الصلاة، لا بالدخول فيها، فيدخل فيها بغلس، ويطيلها حتى يخرج منها وقد أسفر الوقت. وقد رَدَّ هذا القول على من قاله كثيرٌ من العلماء، منهم: الشافعي وابن عبد البر والبيهقي، وقال: أكثر الأحاديث تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل فيها بغلس، ويخرج منها بغلس؛ لحديث عائشة وغيره، وكذلك أكثر أصحابنا، وإن كان منهم من كان يخرج منها بإسفار ويطيل القراءة.

ومن الناس من ادعى أن في هذه الأحاديث ناسخاً ومنسوخاً، وهم فرقتان: فرقة ادَّعت أن الأحاديث في الإسفار منسوخة. وفرقةً ادعت أن أحاديث التغليس منسوخة، منهم: الطحاوي. وهذا في غاية البعد.

وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ الحديث في التغليس أقوى، وكأنَّه يشير إلى أنه مع تعارض الأحاديث يُعمل بالأقوى منها، وأحاديث التغليس أقوى إسناداً وأكثر. وكذلك الشافعي أشار إلى ترجيح أحاديث التغليس بهذا، وعضده: موافقاً ظاهر القرآن من الأمر بالمحافظة على الصلوات. (١)

وقال ابن رجب أيضاً: وهذا الحديث يدل على سرعة خروجهن من المسجد عقيب انقضاء الصلاة مبادرة لما بقي من ظلام الغلس، حتى ينصرفن فيه، فيكون أستر لهن. وهذا المعنى لا يوجد في غير الصبح من سائر الصلوات؛ فلذلك خصه البخاري بالتبويب عليه، فقال: سُرْعَة انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ في المَسْجِدِ. والله أعلم. (٢)

* * *


(١) يُنظر: "فتح الباري" لابن رجب (٤/ ٤٢٥ - ٤٥٥). ويُنظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم" (٥/ ١٤٣ - ١٤٦)، و"فتح الباري" لابن حجر (٢/ ٥٥ و ٢/ ٣٥١)، و"النهاية" لابن الأثير (٢/ ٣٧٢).
(٢) يُنظر: "فتح الباري" لابن رجب (٨/ ٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>