للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خامساً: - التعليق على الحديث:

قال أبو عمر ابن عبد البر: في هذا الحديث كراهية المرور بين يدي المصلي إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة، وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة، وأما المأموم فلا يضره من مَرَّ بين يديه، كما أن الإمام والمنفرد لا يضر أحداً منهما ما مَرَّ من وراء سترة الإمام، وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ وإنَّما قلنا إن هذا في الإمام وفي المنفرد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم يصلي"، ومعناه عند أهل العلم: يصلي وحده؛ بدليل حديث ابن عباس، وبذلك قلنا إنَّ المأموم ليس عليه أن يدفع من يمر بين يديه؛ لأن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ" (١)؛ وفي هذا الحديث أيضا: دليلٌ على أن العمل في الصلاة جائز، والذي يجوز منه عند العلماء القليل، نحو: قتل البرغوث، وحك الجرب، وقتل العقرب، ودرء المار بين يدي المصلي، وهذا كله ما لم يَكْثُر، فإنْ كَثُر أفسد، وما علمتُ أحداً من العلماء خالف هذه الجملة، ولا علمت أحداً منهم جعل بين القليل من العمل الجائز في الصلاة وبين الكثير المفسد لها حداً لا يُتَجَاوز إلا ما تعارفه الناس، والآثار المرفوعة في هذا الباب والموقوفة كثيرة.

وقوله في الحديث "فإن أبى فليقاتله": فالمقاتلة هنا المدافعة، وأظنه كلاما خرج على التغليظ ولكل شيء حد، وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف، ولا يخاطبه، ولا يبلغ منه مبلغا تفسد به صلاته، فيكون فعله ذلك أضر عليه من مرور المار بين يديه، وما أظن أحداً بلغ بنفسه إذا جهل أو نسي فمر بين يدي المصلي إلى أكثر من الدفع، وفي إجماعهم على ما ذكرنا ما يبين لك المراد من الحديث. (٢)

وقال ابن رجب: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ "، أمر بدفع المار، ونهى عن تمكينه من المرور، وظاهره الوجوب.

وقد وقع في كلام ابن عبد البر ما يقتضيه، وأنَّه لا يعلم فيه خلافا، ووقع في كلامه - أيضا - ما يقتضي أنه على الندب دون الوجوب، وهو قول كثير من أصحابنا والشافعية، وغيرهم.

وأكثر أصحابنا عندهم: أنَّ رد المصلي لا يختص بمن كان يصلي إلى سترة، بل يشترك فيه من صلى إلى سترة ومن صلى إلى غير سترة ومر بقربه مار.

وأما الشافعية، فقالوا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى سترة، فلا يَمر بينه وبين سترته، على الصحيح


(١) أخرجه البخاري في "صحيحه" (٧٦) ك/العلم، ب/مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟، وبرقم (٤٩٣) ك/الصلاة، ب/سُتْرَةُ الإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ، وبرقم (٨٦١) ك/الآذان، ب/وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وبرقم (١٨٥٧) ك/الحج، ب/حَجِّ الصِّبْيَانِ، وبرقم (٤٤١٢) ك/المغازي، ب/حَجَّةِ الوَدَاعِ. ومسلمٌ في "صحيحه" (٥٠٤) ك/الصلاة، ب/مرور الحمار والكلب.
(٢) يُنظر: "التمهيد" (٤/ ١٨٧ - ١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>