رابعاً: - النظر في كلام المُصَنِّف - رضي الله عنه - على الحديث:
قال المُصَنِّف - رضي الله عنه -: لم يَرْوِ هذا الحديث عن عَطَاءٍ إلا أبو الأَحْوَصِ.
مِمَّا سبق يَتَبَيَّنُ أنَّ حكم الإمام على الحديث بالتَّفرد صحيحٌ، ولم أقف - على حد بحثي - على ما يدفعه.
خامساً: - التعليق على الحديث:
الحديث فيه دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الحَقِّ أَنَّهُ لا يَخْلُدُ أَصْحَابُ الكَبَائِرِ في النَّارِ، خلافًا للخوارج والمعتزلة.
قال الزَّيْنُ بن المُنير: حديثُ أبي ذَرٍّ مِنْ أحاديث الرَّجَاء التي أَفْضَى الاتِّكَالُ عليها بِبَعْضِ الجَهَلَةِ إلى الإِقْدَامِ على المُوبِقَاتِ، ولَيْسَ هو على ظاهره؛ فإنَّ القَوَاعِدَ اسْتَقَرَّتْ على أنَّ حُقُوقَ الآدَمِيِّينَ لا تَسْقُط بِمُجَرَّدِ المَوْت على الإيمان، ولكن لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهَا أن لا يَتَكَفَّلَ اللَّهُ بها عَمَّنْ يُريدُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ - صلى الله عليه وسلم - على أبي ذَرٍّ اسْتِبْعَادَهُ، ويحتملُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِقَوْلِهِ:"دَخَلَ الْجَنَّةَ" أَيْ: صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الحال، وإِمَّا بَعْدَ أَنْ يَقَعَ مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ، نَسْأَلُ اللَّهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ.
وفي الحديث أَنَّ أَصْحَابَ الكَبَائِرِ لا يُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُوَحِّدِينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ اسْتَحْضَرَ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَبِحَمْلِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى عَدَمِ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ.
هذا وقد اختلفوا في تأويل حديث الباب، وما في معناه من تحريم النار على من قال لا إله إلا الله على أقوال كثيرة، والذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر وبه تجتمع الأدلة ولا تتعارض، أن تحمل على أحوال ثلاثة: الأولى: من قام بلوازم الشهادتين من التزام الفرائض والابتعاد عن الحرمات، فالحديث حينئذ على ظاهره، فهو يدخل الجنة وتحرم عليه النار مطلقًا. الثانية: أن يموت عليها، وقد قام بالأركان الخمسة ولكنه ربما تهاون ببعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات، فهذا ممن يدخل في مشيئة الله ويغفر له. الثالثة: كالذي قبله، ولكنه لم يقم بحقها ولم تحجزه عن محارم الله كما في حديث أبي ذر المتفق عليه:" وإن زنى وإن سرق. . . " الحديث، ثم هو إلى ذلك لم يعمل من الأعمال ما يستحق به مغفرة الله، فهذا إنما تحرم عليه النار التي وجبت على الكفار، فهو وإن دخلها، فلا يخلد معهم فيها بل يخرج منها بالشفاعة أو غيرها ثم يدخل الجنة ولابد. (١)
* * *
(١) يُنظر في شرح الحديث والتعليق عليه: "المنهاج شرح صحيح مسلم" (٧/ ٧٥)، "فتح الباري" (١/ ٢٢٦ و ٣/ ١١١)، "التمهيد" لابن عبد البر (٩/ ٢٤٢، وما بعده)، "السلسلة الصحيحة" (٣/ ٢٩٩).