للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خامسًا:- التعليق على الحديث:

قال المناوي: قوله: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دَعَا اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ": يجوز أن يُراد به واحد، وأن يُراد به المتعدد، "فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ جَاهِهِ، كَمَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ": من أيّ جهةٍ اكتسبه، وفي أيّ شيءٍ أنفقه، نَبَّه به على أنه كما يجب على العبد رعاية حقوق الله في ماله بالإنفاق، يلزمه رعاية حقوق الله في بدنه ببذله المعونة للخلق بالشفاعة وغيرها، فكما يسأله الله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، يسأله عن تقصيره في جاهه وبخله به؛ فإذا رأينا عالمًا أو صالحًا يتردَّدُ للحكّام لا يبادر بالإنكار، بل يتأمل إن كان لمحض نفع العباد وكشف الضر عنهم مع الزهد واليأس فيما في أيديهم والتعزيز بعز الإيمان، وأمرهم بالمعروف والنهي عن المنكر فلا حرج عليه؛ لأنه من المحسنين، وما على المحسنين من سبيل.

قال الغزالي: والجاه معناه ملك القلوب بطلب محل فيها للتوصل إلى الاستعانة للفرض، وكل من لم يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجاته وافتقر لمن يخدمه افتقر إلى جاه في قلب خادمه، إذ لو لم يكن له عنده قدر لم يقم بخدمته، فقيام القدر في القلوب هو الجاه، وهذا له أول قريب، لكن يتمادى إلى هاوية لا عمق لها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإنما الحمل في القلوب لجلب نفع أو دفع ضر، فالنفع يغني عنه المال، والدفع يحتاج إلى الجاه، وقدر الحاجة لا ينضبط، والخائض في طلب الجاه سالكٌ طريق الهلاك، والاشتغال بالتدين والتعبد يُمهد له في القلوب ما يدفع به الأذى، فلا رخصة في طلبه؛ لأن له ضراوة كضراوة الخمر، بل أشد! ولذلك يسأل الله تعالى عنه.

وقال أيضًا: حقيقة الجاه ملك القلوب، فمالكها يتوسل بها إلى المقاصد؛ كمالك المال يتوسل به إليها، بل المال أحدها، والجاه قُوت الأرواح الطالبة الاستعلاء، ومن ابتُلي بحب الجاه جرَّه إلى الرياء، والنفاق، ولا يقوم بحق الجاه على الوجه الشرعي إلا الأفراد، ولهذا كان مسؤولًا عنه، وعلاجه مركّب من علم وعمل: فالعلم أن يتأمل أن آخر أمره الموت، ويجعله نصب عينه، والعمل أن يتخذ العزلة إلا لضرورة المعيشة، وما لا بد له منه كالقليل من المال، فالمال قوت الأبدان للغذاء، والجاه قوت الأرواح للاستعلاء. (١)

* * *


(١) يُنظر: "فيض القدير" (١/ ٤٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>