بالبحث في الشيوخ والتلاميذ، تَبَيَّن أنَّ أحمد بن خُليد لم يروِ عن موسى بن عيسى، وإنما يروي عن محمد بن عيسى الطبَّاع، وكذلك يوسف بن محمد بن المنكدر، لم يَرو عنه موسى بن عيسى. يُنظر: "تهذيب الكمال" (٣٢/ ٤٥٦). كما أنَّ الحديث في "مجمع البحرين" (٣٠١٥) بإسناد الطبراني، ومتنه، وفيه محمد بن عيسى، وأشار المحقق الفاضل أنه في "الأوسط" موسى، وهو خطأ من الناسخ، ولم يتنبه له محقق "الأوسط".
قلتُ: وذكر الشيخ/الحويني في "النافلة" (٩٤) أنَّ موسى بن عيسى هذا، هو آفة الحديث؛ وأنه متروك، فَلَعَلَّه - والله أعلم - ظَنَّه موسى بن عيسى بن المنذر، أبو عمرو السلمي الحمصي، وهو من شيوخ الطبراني. يُنظر: "إرشاد القاصي والداني إلى تراجم شيوخ الطبراني" (ص/٦٥٧)، وليس هو، فصاحبنا الطبَّاع، وليس الحمصي. (٢) قال أبو حاتم ابن حبَّان في "صحيحه" (٢/ ٢١٨): المُدَارَاةُ التي تَكُونُ صَدَقَةً لِلْمُدَارِي؛ هِيَ تَخَلُّقُ الإِنْسَانِ الأَشْيَاءَ المُسْتَحْسَنَة مع مَنْ يُدْفَعُ إِلَى عِشْرَتِهِ مَا لَمْ يَشُبْهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَالمُدَاهَنَةُ: هِيَ اسْتِعْمَالُ المَرْءِ الخِصَالَ الَّتِي تُسْتَحْسَنُ مِنْهُ فِي الْعِشْرَةِ وَقَدْ يَشُوبُهَا مَا يَكْرَهُ الله - عز وجل -. وقال ابن حجر في "الفتح" (١٠/ ٥٢٨): قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولِين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الأُلفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة: من الدهان؛ وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك.
وللإمام الآجري في كتابه "الغرباء" (ص/٧٩) كلامٌ جيد - زاد على ما ذكره ابن حبان، وابن بطال -، فقال: المُدَارَاةُ التي يُثَابُ عليها العاقل، ويكون محمودًا بها عند اللَّهِ - عز وجل -، وعند مَنْ عَقَلَ عن اللَّهِ تَعَالَى هو الذي يُدَارِي جميع النَّاس الذين لا بُدَّ له منهم، وَمِنْ مُعَاشَرَتِهِم لا يُبَالِي ما نَقَصَ مِنْ دُنْيَاهُ، وما انْتُهِكَ به مِنْ عِرْضِهِ بعد أَنْ سَلِمَ له دِينُهُ، فهذا رَجُلٌ كَرِيمٌ غَرِيبٌ في زمانه. والمُدَاهَنَةُ: فهو الذي لا يُبَالِي ما نَقَصَ مِنْ دِينِهِ إذا سَلِمَتْ له دُنْيَاهُ، قد هَانَ عليه ذَهَابُ دِينِهِ وَانْتِهَاكُ عِرْضِهِ، بعد أَنْ تَسْلَمَ له دُنْيَاهُ، فهذا فِعْلُ مَغْرُورٍ، فإذا عارضه العاقل، فقال: هذا لا يَجُوزُ لك فِعْلُهُ، قال: نُدَارِي، فَيَكْسُو المُدَاهَنَةَ المُحَرَّمَةَ اسم المُدَارَاةِ، وهذا غَلَطٌ كَبِيرٌ مِنْ قَائِلِهِ، فاعلم ذلك، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ ". وقال ابن الأثير في "النهاية" (٢/ ١١٥): المُدَارَاة: مُلايَنَة النَّاسِ وحُسنُ صُحْبَتهم واحْتِمَالُهم لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنْكَ. وَقَدْ يُهْمز. إذًا: فالمداراة ليِّن الكلام، والبشاشة للفسّاق وأهل الفحش والبذاءة، أولًا: اتقاءً لفحشهم؛ وثانيًا: لعلّ في مداراتهم - مع إظهار عدم الرضا عن فعلهم - كسْبًا لهدايتهم، بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة، ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحيْن" "بئس أخو العشيرة"، وسيأتي ذكره في الشواهد. (٣) في الأصل "موسى"، والصواب ما أثبته، كما سبق.