للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خامسًا: - التعليق على الحديث:

أخرج الإمام مسلم في "صحيحه"، عن يَزِيد بن الأَصَمِّ، حدَّثتني مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلالٌ. قال يزيد: وَكَانَتْ خَالَتِي، وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ. (١)

وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه"، مِنْ طُرُقٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَحْضُرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ، فَقَالَ أَبَانُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ، ولا يَخْطُبُ». (٢)

وقال الإمام الترمذي: حَدِيثُ عُثْمَانَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والعَمَلُ على هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهم -، وهو قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لا يَرَوْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ المُحْرِمُ، قَالُوا: فَإِنْ نَكَحَ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ. (٣)

فذهب جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلى أن نكاح المحرم لا يَصِحُّ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ - رضي الله عنه -، وميمونة رضي الله عنها، خلافا لأبى حَنِيفَةَ - رضي الله عنه -، ولأنَّ أكثر الصحابة رووا أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، ولم يَرْوِ أنَّه تزوجها مُحْرِمًا إلا ابن عَبَّاسٍ وَحْدَهُ، وَرَوَتْ مَيْمُونَةُ وَأَبُو رَافِعٍ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَهُمْ أَعْرَفُ بِالْقَضِيَّةِ لِتَعَلُّقِهِمْ به، بخلاف ابن عباس - رضي الله عنه -، وتأولَّ بعضهم حديث ابن عَبَّاسٍ على أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا في الحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ، وَيُقَالُ لِمَنْ هو في الحَرَمِ مُحْرِمٌ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا، وهي لُغَةٌ شَائِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، ولأنَّه عند تَعَارَض الْقَوْل والفعل، فالصَّحِيحُ عند الأصوليين ترجيح القول؛ لأنَّه يَتَعَدَّى إلى الغير، والفعل قد يكون مقصورًا عليه. (٤)

فقال ابن حبَّان: هذان خَبَرَانِ في نِكَاحِ المُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ تَضَادَا في الظَّاهِرِ، وَعَوَّلَ أَئِمَّتُنَا فِي الفصل فيهما، بأن قالوا: إِنَّ خَبَرَ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، "وَهْمٌ" قاله سَعِيدُ بن المُسَيِّبِ، وخَبَرُ يَزِيدَ بن الأَصَمِّ يُوَافِقُ خَبَرَ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ - رضي الله عنهم - في النَّهْيِ عن نِكَاحِ المُحْرِمِ وإنكاحه، وهو أَوْلَى بِالقَبُولِ لتأييد خَبَرِ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - إِيَّاهُ، والذي عندي أَنَّ الخَبَرَ إِذَا صَحَّ عن المُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم -، غَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ استعماله، إلا أَنْ تَدُلَّ السُّنَّةُ على إباحة تَرْكِهِ، فإن جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يقول: وَهِمَ ابنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةُ خَالَتُهُ في الخبر الذي ذَكَرْنَاهُ، جَازَ لِقَائِلٍ آخَرَ أن يقول: وَهِمَ يَزِيدُ بنُ الأَصَمِّ في خَبَرِهِ؛ لأنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أَحْفَظُ وَأَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ مِئَتَيْنِ مِثْلِ يَزِيدَ بن الأَصَمِّ، ومعنى خَبَرِ ابن عَبَّاسٍ عِنْدِي، حَيْثُ قال: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ، يُرِيدُ بِهِ وهو داخل الحَرَم، لا أنَّه كان مُحْرِمًا، كما يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا دَخَلَ الظُّلْمَةَ: أَظْلَمَ، وَأَنْجَدَ: إِذَا دَخَلَ نَجْدًا، وَإِذَا


(١) أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه" (١٤١١) ك/النكاح، ب/تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَكَرَاهَةِ خِطْبَتِهِ.
(٢) أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" (١٤٠٩) ك/النكاح، ب/تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَكَرَاهَةِ خِطْبَتِهِ.
(٣) يُنظر: "السنن" عقب الحديث رقم (٨٤٠).
(٤) يُنظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم" (٩/ ١٩٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>