للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

- وقد وافقه على ذلك البزَّار - رضي الله عنه -، لكنَّ عبارته جاءت أوْسع من عبارة المصنف - رضي الله عنه -، فقال: لا نعلمه يُروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، بهذا الإسناد. فأطلق التفرُّد المُطلَق على الصحابي، وأنَّه لا يُرْوَ إلا من حديث بلال، وأنَّه لا يُرو عن بلال إلا بهذا الإسناد؛ ومن خلال ما سبق عَرْضُه في التخريج يتضح أنه بالفعل لم يُروَ هذا الحديث إلا عن بلال بن رباح - رضي الله عنه -، لكن لا يُسَلَّم له في إطلاق التفرُّد في الإسناد، إذ أنَّ التفرُّد فيه متوقف عند معاوية بن سَلَّام، والبزار أخرجه من طريق الرَّبيع بن نافع، ولم ينفرد به الرَّبيع، بل تابَعَه الطَّاطري، ومَعْمَر بن يَعْمَر؛ لذا فعبارة المصنف - رضي الله عنه - "تفرَّد به معاوية" أضبط، وأحْكم، والله أعلم.

خامسًا: - التعليق على الحديث:

- أخرج الإمام أبو داود، والترمذي، من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، قَالَ:

أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَةً، فَقَالَ: "أَسْلَمْتَ؟ " فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ". (١)

قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، ومعنى قوله: "إِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ": أي هداياهم. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقبل من المشركين هداياهم، وذُكر في الحديث الكراهية، واحتُمل أن يكون هذا بعد ما كان يقبل منهم، ثم نهى عن هداياهم.

- بينما قال الطبري: كلا الخَبَرَيْنِ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ في أَحَدِهِمَا إِبْطَالُ مَعْنَى ما في الآخَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَبُولَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما قَبِلَ مِنْ هَدِيَّةٍ مَنْ قَبِلَ هَدِيَّتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّمَا كَانَ نَظَرًا مِنْهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ، وَعَوْدًا مِنْهُ بِنَفْعِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لَا احْتِجَابا مِنْهُ لِذَلِكَ دُونَهُمْ، وَلَا إِيثَارًا مِنْهُ نَفْسَهُ بِهِ عَلَيْهِمْ.

وَلِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ، وَقَبُولُ هَدِيَّةِ كُلِّ مُهْدٍ إِلَيْهِ مِنْ مُلُوكِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، إِذَا كَانَ قَبُولُهُ مَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَنَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ. وَأَمَّا رَدُّهُ - صلى الله عليه وسلم - مَا رَدَّ مِنْ هَدِيَّةِ مَنْ رَدَّ هَدِيَّتَهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَرَ قَبُولَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، تَعْرِيفًا مِنْهُ لِأَئِمَّةِ أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ قَبُولُ هَدِيَّةِ مُهْدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي قُلْنَا، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لا نَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ"، وَقَوْلُهُ: "هَدَايَا الإِمَامِ غُلُولٌ"، قَوْلًا عَامًّا مَخْرَجُهُ، لا دليل فيه على خُصُوصِهِ، فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي أَنَّ اللَّهَ - عز وجل - ذِكْرُهُ قَدْ أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْوَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} (٢)، فَهُوَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِم، لَا شَكَّ أَنَّهُ أَحَلُّ وَأَطْيَبُ. (٣)

* * *


(١) أخرجه أبو داود في "سننه" (٣٠٥٧) ك/الخراج، ب/الإمام يقبل هدايا المشركين، والترمذي في "سننه" (١٥٧٧) ك/السير، ب/كراهية هدايا المشركين.
(٢) سورة "الأنفال"، آية (٤١).
(٣) يُنظر: "تهذيب الآثار" - مُسند علي بن أبي طالب - (ص/٢١٠ - ٢٢١)، وقد أطال النفس في ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>