للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

دَخَلَ الحَرَمَ: أَحْرَمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ مُحْرِمًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عَزَمَ على الخُرُوجِ إلى مَكَّةَ في عَمْرَةِ القَضَاءِ، فَلَمَّا عَزَمَ على ذلك بَعَثَ مِنَ المَدِينَةِ أبا رَافِعٍ، وَرَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ إلى مَكَّةَ لِيَخْطُبَا مَيْمُونَةَ له، ثُمَّ خَرَجَ - صلى الله عليه وسلم - وَأَحْرَمَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طاف

وَسَعَى وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَتَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ سَأَلَهُ أَهْلُ مَكَّةَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ سَرِفَ بَنَى بِهَا بِسَرِف وَهُمَا حَلَالَانِ، فَحَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ نَفْسَ العَقْدِ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ دَاخِلَ الْحَرَمِ بِلَفْظِ الحَرَامِ، وحكى يَزِيدُ بن الأَصَمِّ القِصَّةَ على وَجْهِهَا، وأخبر أبو رَافِعٍ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ، وكان الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا، وكذلك حَكَتْ مَيْمُونَةُ عَنْ نَفْسِهَا فَدَلَّتْكَ هذه الأشياء مع زَجْرِ المُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عن نِكَاحِ المُحْرِمِ وإنكاحه على صِحَّةِ ما أَصَّلْنَا ضِدَّ قول مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْبَارَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - تَتَضَادُ وَتَتَهَاتَرُ حَيْثُ عَوَّلَ عَلَى الرَّأْيِ الْمَنْحُوسِ وَالْقِيَاسِ الْمَعْكُوسِ. (١)

بينما قال ابن عبد البَرِّ: اخْتَلَفَتِ الآثَارُ في هذا الحُكْم، لكنَّ الرِّوَايَةَ أنَّهُ تَزَوَّجَهَا وهو حَلَالٌ جَاءَتْ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى، وحديثُ ابن عَبَّاسٍ صَحِيحُ الإِسْنَادِ لَكِنَّ الوَهْمَ إلى الواحد أَقْرَبُ إلى الوَهْمِ مِنَ الجَمَاعَةِ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِ الخَبَرَيْنِ أن يَتَعَارَضَا فَتُطْلَبُ الحُجَّةُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ صَحِيحٌ في مَنْعِ نِكَاحِ المُحْرِمِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ والرواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهو حلالٌ متواترةٌ عن ميمونة بعينها، وعن أبي رافع مولى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد الأصم ابن أختها، وهو قول ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وجمهور علماء المدينة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْكح ميمونة إلا وهو حلالٌ، قبل أن يُحْرِم، وما أعلم أحدًا مِنْ الصحابة روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَكَحَ ميمونة، وهو مُحْرِم إلا ابن عباس.

وقال أيضا: ورواية مَنْ ذكرنا معارضة لروايته، والقلب إلى رواية الجماعة أَمْيل، لأن الواحد أقرب إلى الغلط، وأكثر أحوال حديث ابن عباس أن يُجعل متعارضا مع رواية من ذكرنا، فإذا كان كذلك سقط الاحتجاج بجميعها، ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها، فوجدنا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه - قد روى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَهَى عن نِكَاح المُحْرِم، وقال: لا يَنْكح المحرم ولا يُنْكح، فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها، لأنه يَسْتَحيل أن يَنهى عن شيء ويفعله، مع عمل الخلفاء الراشدين لها، وهم عمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم -، وهو قول ابن عمر - رضي الله عنهم -، وأكثر أهل المدينة. (٢)

قلتُ: وقول ابن عبد البر: "وما أعلم أحدًا مِنْ الصحابة روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَكَحَ ميمونة، وهو مُحْرِم إلا عبد الله بن عباس"، أجاب عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح"، بأنَّه رُوي أيضًا عن أبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم -، وذكر أنَّ حديث عائشة أُعِلَّ بالإرسال، وحديث أبي هريرة ضَعيف الإسناد. (٣)

* * *


(١) يُنظر: "الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان" عقب الحديث رقم (٤١٢٩ و ٤١٣٩).
(٢) يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (٣/ ١٥٢ - ١٥٣).
(٣) يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (٩/ ١٦٥ - ١٦٦)، ومَنْ رام المزيد فليُراجع: "السنن الكبرى" للبيهقي (٧/ ٣٤٥)، و"معالم السنن" (٢/ ١٨٣)، و"عون المعبود مع حاشية ابن القيم" (٥/ ٢٠٧)، والمغنى (٥/ ١٦٢)، و"زاد المعاد" (٥/ ١١٢ - ١١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>