للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

على أساس سوء الظن بهم، فكيف يعقل أن يأمر - صلى الله عليه وسلم - أمته أن يتعاملوا على هذا الأساس الباطل؟!

قلتُ: وأجاب بعض أهل العلم عن هذا التعارض، بعدة أجوبة، كالآتي:

- قال أبو سعد الخركوشي: أنكر بعضهم الحديث لمخالفته عندهم الأمر النبوي بحسن الظن بالمسلم، والحقيقة أنه لا يعارض ذلك لأن أمر المؤمن العاقل وسط، يعقل ويتوكل لا يفعل واحدا دون الاخر، يتوكل مع أخذ الحذر والحيطة، يتقدم تارة عزما، ويتأخر حزما تارة أخرى. (١)

- وقال المناوي: ولا يعارض هذا خبر: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ"؛ لأنَّه فيمن تحقق حسن سريرته وأمانته، والأول فيمن ظهر منه الخِدَاع والمكر والخيانة، والقرينة تغلب أحد الطرفين؛ فمن ظهرت عليه قرينة سوء يستعمل معه سوء الظن، وفيه تحذير مِنْ التَغَفُّل، وإشارة إلى استعمال الفطنة، فإن كل إنسان لا بد له من عدو بل أعداء يأخذ حذره منهم؛ قال بعض العارفين: هذه حالة كل موجود، لا بد له من عدو وصديق، بل هذه حالة سارية في الحق والخلق، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (٢)، فهم عبيده، وهم أعداؤه، فكيف حال العبيد بعضهم مع بعض، بما فيهم من التنافس والتباغض والتحاسد والتحاقد؟. (٣)

- وقال العجلوني: ويجاب بحمل الحديث: على أهل التهمة ونحوهم، والآية ونحوها على خلافهم. (٤)

- وقال الصنعانيّ: قَسَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ الظَّنَّ إلى واجبٍ، ومَنْدُوبٍ، وحرامٍ، ومُبَاحٍ، فالواجبُ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، والحرامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وبكلِّ مَنْ ظَاهِرُهُ العدالة مِنْ المُسْلِمِينَ، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ»، والمندوب حُسْنُ الظَّنِّ بِمَنْ ظاهره العَدَالَةُ مِنْ المُسْلِمِينَ … وَمِنْ الجائز: سُوءُ الظَّنِّ بِمَنْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِمُخَالَطَةِ الرّيبِ، والمُجَاهِرَةِ بالخبائث فلا يَحْرُمُ سُوءُ الظَّنِّ به؛ لأنَّه قد دَلَّ على نَفْسِهِ، وَمَنْ سَتَرَ على نفسه لَمْ يُظَنَّ به إلا خَيْرًا، وَمَنْ دَخَلَ في مداخل السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا به السُّوءَ، والذي يُمَيِّزُ الظُّنُونَ التي يَجِبُ اجْتِنَابُهَا عما سِوَاهَا: أَنَّ كُلَّ ما لا تُعْرَفُ له أَمَارَةُ صَحِيحَةُ وَسَبَبٌ ظَاهِرٌ كان حَرَامًا واجب الاجْتِنَابِ، وذلك إذا كان المَظْنُونُ به مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْرُ والصَّلَاحُ، وَمَنْ عُرِفَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ في الظَّاهِرِ فَظَنُّ الفَسَادِ، والخيانة به مُحَرَّمٌ، بخلاف مَنْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَعَاطِي الرّيبِ فَنُقَابِلُهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ. (٥)

- وقال الشيخ أبو يعقوب إسحاق بن محمد النَّهْرَجُورِيّ في قوله - صلى الله عليه وسلم - «احترسوا من النّاس بسوء الظّنّ»: فقال: بسوء الظن في أنفسكم بأنفسكم، لا بالناس. (٦)


(١) يُنظر: "شرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - " (٥/ ١٩١).
(٢) سورة "الممتحنة"، آية (١).
(٣) يُنظر: "فيض القدير" (١/ ١٨١ - ١٨٢).
(٤) يُنظر: "كشف الخفاء ومزيل الإلباس" (١/ ٧١).
(٥) يُنظر: "سبل السلام" (٢/ ٦٦٥).
(٦) يُنظر: "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" لابن العَمَّاد الحنبلي (٤/ ١٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>