للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

رآه في اليقظة سواء، قال: وهذا قول يُدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحدٌ إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك: أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيُزار مجرد القبر ويُسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل.

وقالت طائفة: معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث؛ ومن المعلوم أنه يُرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقاً، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي"، فالأولى أن تُنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما يُنسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة كما عصم من الشيطان في يقظته.

قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثاً؛ بل هي حق في نفسها ولو رؤي على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قِبَل الله؛ وقال: وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره، ويؤيده قوله: "فَقَد رَأَى الحَقَ"، أي: رأى الحق الذي قُصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها، ولا يُهمل أمرها؛ لأنها إمَّا بشرى بخير، أو إنذار من شر، إما ليخيف الرائي، وإما لينزجر عنه، وإما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه.

قوله: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي"، فمعناه: لا يتشبه بي؛ وأما قوله: "فِي صُورَتِي"، فمعناه: لا يصير كائناً في مثل صورتي، وقوله: "لا يَسْتَطِيعُ"، يشير إلى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا: في الحديث إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيق الغرض في ذلك، حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة، والصواب: التعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي.

ويؤخذ من هذا أنَّ النائم لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد، أو لا بد أن يعرضه على الشرع، فالظاهر أنَّ الثاني هو المعتمد. (١)

أسأل الله عز وجلَّ أن يرزقنا رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، ومجاورته في الآخرة، وأن يرزقنا صدق محبته، والعمل بشريعته، آمين آمين آمين يا رب العالمين.

* * *


(١) يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (١٢/ ٣٨٣ - ٣٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>