للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومعنى "فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ": أنَّك كنت معرَّضًا لدخول النَّارِ، وهذا فَكَاكُكَ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قَدَّرَ لها عددًا يَمْلَؤُهَا فإذا دخلها الكُفَّارُ بِكُفْرِهِمْ وذُنُوبِهِم صاروا في معنى الفَكَاكِ للمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا رواية "يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ": فمعناهُ أنَّ اللَّهَ تعالى يَغْفِرُ تلكَ الذُّنُوبَ لِلْمُسْلِمِينَ ويُسْقِطُهَا عنهم، ويضعُ على اليهود والنَّصَارى مثلها بكفرهم وذُنُوبِهِم فيُدْخِلُهُمُ النَّارَ بِأَعْمَالِهِم لا بذنوب المسلمين ولا بُدَّ مِنْ هذا التَّأْوِيلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - عز وجل -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. (١)

وقال البيهقي: وَوَجْهُ هَذَا الحديث عِنْدِي - واللَّهُ أَعْلَمُ - أنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِ مقعدًا في الجَنَّةِ، ومقعدًا في النَّارِ، كذلك الكافرُ، فالمُؤْمِنُ يدخلُ الجنَّة بَعْدَمَا يَرَى مقعدَهُ مِنَ النَّار لِيَزْدَادَ شُكْرًا، والكافرُ يَدْخُلُ النَّارَ بعدما يرى مقعدَهُ مِنَ الجنَّة لِتَكُونَ عليه حَسْرَةٌ، فكأنَّ الكَافِرَ يُورَثُ على المؤمِنِ مقعدُهُ مِنَ الجَنَّةِ، والمُؤْمِنُ يُورَثُ على الكَافِرِ مقعدُهُ مِنَ النَّارِ فَيَصِيرُ في التَّقديرِ كأنَّهُ فِدَى المُؤْمِنَ بالكافرِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (٢)

وقال البيهقي أيضًا: وقد عَلَّلَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - وذكر الخلاف فيه على أبي بُردة، ثُمَّ قال: الخَبَرُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الشَّفَاعَةِ، وأنَّ قومًا يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ أَكْثَر وَأَبَيْن (٣).

قال البيهقي: وَحَدِيثُ أبي بُرْدَةَ، عن أبيه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد صَحَّ عند مُسْلِمٍ - رحمهُ اللهُ -، وذلك لا يُنَافِي حديث الشَّفَاعَةِ، فإنَّ حديث الفداء وإن وَرَدَ مَوْرِدَ العُمُومِ في كُلِّ مُؤْمِنٍ فيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ المراد به كُلَّ مُؤْمِنٍ قد صَارَتْ ذُنُوبُهُ مُكَفَّرَةً بما أصابه مِنَ البَلَايَا في حياته … وحديثُ الشَّفَاعَةِ يَكُونُ فِيمَنْ لَمْ تَصِرْ ذُنُوبُهُ مُكَفَّرَةً في حَيَاتِهِ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا القول لهم في حديث الفداء بعد الشَّفَاعَةِ، واللهُ أعلم. (٤)

قال الإمام النووي: قوله " فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ ": إِنَّمَا اسْتَحْلَفَهُ لِزِيَادَةِ الاستيثاق وَالطُّمَأْنِينَةِ، ولما حَصَلَ له مِنَ السُّرُورِ بهذه البِشَارَةِ العظيمة لِلْمُسْلِمِينَ أجمعين؛ ولأنَّهُ إن كان عنده فيه شَكٌّ وخوفٌ، غَلَطٌ أو نِسْيَانٌ، أو اشْتِبَاهٌ أو نحو ذلك، أمسك عَنِ اليَمِينِ، فإذا حلف تَحَقَّقَ انتفاءُ هذه الأمور، وعرف صِحَّةَ الحديث، وقد جاء عن عُمَر بن عبد العزيز والشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أنَّهما قالا: هذا الحديث أرجى حديثٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وهو كما قالا؛ لِمَا فيه مِنَ التَّصْرِيحِ بِفِدَاءِ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَتَعْمِيمِ الفِدَاءِ، وللَّه الحَمْدُ. (٥)

* * *


(١) يُنظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم" (١٧/ ٨٥).
(٢) يُنظر: "البعث والنشور" (ص/٩٦).
(٣) يُنظر: "التاريخ الكبير" (١/ ٣٩).
(٤) يُنظر: "شعب الإيمان" (١/ ٣٤٢).
(٥) يُنظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم" (١٧/ ٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>