للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لذا ربّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته على أرفع الأخلاق وأعلاها، فأخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قام أحدُكُم مِنْ مَجْلسه، ثم رَجَع إليه، فهو أَحَقُّ به".

قال النووي: قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جَلَسَ في موضعٍ مِنَ المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثُمَّ فارقه ليعود، بأن فارقه ليتوضَّأ، أو يقضي شغلًا يسيرًا ثُمَّ يَعُود، لم يبطل اخْتِصَاصُهُ، بل إذا رجع فهو أحقُّ به في تلك الصَّلاة، فإن كان قد قَعَدَ فيه غيره فله أن يُقِيمَهُ، وعلى القاعد أن يُفَارِقَهُ لهذا الحديث، وهو الصَّحِيحُ عند أصحابنا، وأنَّه يَجِبُ على مَنْ قعد فيه مُفَارقته إذا رجع الأول، وقال بعضهم: هذا مستحبٌ ولا يجب، وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ، والصَّوَابُ الأوَّل. قال أصحابنا: ولا فرق بين أَنْ يَقُومَ منه ويترك فيه سجَّادةً ونحوها أم لا، فهذا أَحَقُّ به في الحالين، قال أصحابنا: وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا دون غيرها، واللَّه أعلم. (١)

ولهذا نهى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسه ثُمَّ يَجْلِس مَكَانه إذا كان قد سبقه إليه؛ فأخرج البخاري، ومسلم في "صحيحيهما" مِن حديث ابن عُمر - رضي الله عنه -، قال: "نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ"، قُلْتُ لِنَافِعٍ - القائل: ابن جريج الراوي عن نافع -: الجُمُعَةَ؟ قَالَ: الجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. (٢)

• ولقد ضَرَبَ لنا الصَّحَابة الكِرام، وسَلَفُنا الصَّالح الأَبْرَار أَبْرَز الأَمْثِلة، وأَرْوَع النَّمَاذِج في امْتِثَالِهم لهذا الأَدِب الجَمّ، وذاك الخُلق الرَفِيع، فأخرج الإمام أحمد في "مسنده"، عن سُهَيْل بن أبي صَالِحٍ، قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَالِسًا، وَعِنْدَهُ غُلامٌ، فَقَامَ الْغُلامُ، فَقَعَدْتُ فِي مَقْعَدِ الْغُلامِ، فَقَالَ لِي أَبِي: قُمْ عَنْ مَقْعَدِهِ، إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنْبَأَنَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ " غَيْرَ أَنَّ سُهَيْلاً، قَالَ: لَمَّا أَقَامَنِي تَقَاصَرَتْ بِي نَفْسِي. (٣)

* * *


(١) يُنظر: "شرح النووي على مسلم" (١٤/ ١٦٣).
(٢) أخرجه البخاري في "صحيحه" (٩١١)، ك/الجمعة، ب/لا يُقيم الرَّجُلُ أخاه يوم الجمعة، ويقعد في مكانه، وبرقم (٦٢٦٩)، ك/ الاستئذان، ب/لا يُقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسه، وبرقم (٦٢٧٠)، ك/ الاستئذان، ب/ قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا}، وفيه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (٢١٧٧/ ١ - ٥)، ك/السلام، ب/تَحْرِيمِ إِقَامَة الإِنسَان مِنْ مَوْضِعِهِ المُبَاح الذي سَبَقَ إِلَيْهِ. وبرقم (٢١٧٨)، من حديث جَابِرٍ بن عبد الله - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لْيُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ، فَيَقْعُدَ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُولُ افْسَحُوا».
(٣) أخرجه أحمد في "مسنده" (٨٥٠٩)، وقال مُحققه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>