للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ في مَصْلَحَةِ البَائِعِ بِتَوفِيرِ الثَّمَنِ، وإذا تقابل الأَمْرَانِ وجب تَمْكِينُ الفريقين مِنَ الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السِّلْعَة أنْ يَبِيعَ بما لا يَرْضَى به، مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (١)، وإلى هذا ذهب جُمْهُورُ العُلَمَاءِ.

ورُويَ عن مالك أنه يجوز للإمام التسعير، وأحاديث الباب تَرُدُّ عليه، وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء والرّخص، وإلى ذلك مال الجمهور. وفي وجهٍ للشافعية بجوازه في حالة الغلاء، وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتًا للآدمي وغيره من الحيوانات، وبين ما كان غير ذلك من الإدامات والأمتعة. (٢)

قلت: ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسندٍ حسن من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَدِمَ نَبَطِيٌّ مِنَ الشَّامِ بِثَلاثِينَ حِمْل شَعِيرٍ وَتَمْرٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَعَّرَ - يَعْنِي مُدًّا بِدِرْهَمٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ فِي النَّاسِ يَوْمَئِذٍ طَعَامٌ غَيْرُهُ، فَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَلاءَ السِّعْرِ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَلا لأَلْقَيَنَّ اللَّهَ - عز وجل - قَبْلَ أَنْ أُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ مَالِ أَحَدٍ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ». (٣)

بينما قال ابن العربي المالكي: والحق جواز التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حق، وما فعله حكم لكن على قومٍ صحّت نيتهم وديانتهم، أما قوم قصدوا أكل مال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى. (٤)

وقال ابن القيّم: وَأَمَّا التَّسْعِيرُ: فَمِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ عَدْلٌ جَائِزٌ، فَإِذَا تَضَمَّنَ ظُلْمَ النَّاسِ وَإِكْرَاهَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنٍ لَا يَرْضَوْنَهُ، أَوْ مَنْعِهُمْ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ، مِثْلُ إكْرَاهِهِمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَمَنَعَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ، فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ. وأجاب ابن القيم عن حديث الباب بأنه في قضية معينة، وليست لفظًا عامًّا، وليس فيها أنَّ أحدًا امتنع عن بيع ما الناس محتاجون إليه. (٥)

قلتُ: ومن أجازه إنما جوَّزه عند الضرورة والمصلحة الكبرى وهي مصلحة المجتمع، وبشرط الرضا من البائع. قال أبو الوليد الباجي: ولا يُجبَرون على التسعير، ولكن عن رضا، وعلى هذا أجازه من أجازه. (٦)

* * *


(١) سورة "النساء"، آية (٢٩).
(٢) يُنظر: "تحفة الأحوذي" (٤/ ٤٥٢).
(٣) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (١٣٥٤).
(٤) "عارضة الأحوذي" (١/ ١٤٥).
(٥) "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص/٢٤٠).
(٦) "المنتقى شرح الموطأ" (٥/ ١٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>