حاله: اختلف فيه أقوال النّقاد اختلافًا واسعًا، ففيه الجرح والتعديل المطلق والمُقيَّد، والمُجْمَل والمُفَسَّر، والجرح المُفَسَّر مِنْه ما هو قادحٌ وما ليس بقادحٍ، ومِنْ توثيقه ما هو أعلا التوثيق، ومِنْه ما هو أوسطه، ومِنْهُ ما هو أدناه، وكذلك الجرح، والجرح والتعديل مِنْهُ ما صدر مِنْ مُتَشَدِّد، وما صدر مِنْ مُعتدلٍ، وما صدر مِنْ مُتساهلٍ، وما صدر عن فحصٍ لمروياته وسبرها، ومِنْ العلماء مَنْ أشار إلى الخلاف فيه دون ترجيح، ومِنْهم مَنْ تصدَّى للترجيح؛ لذا سنشير إلى طرفٍ مِنْ هذه الأقوال، ثُمَّ أذكر حاصل هذه الأقوال، كالآتي:
- قال يزيد بن هارون، وابن عُيَيْنَة، وشعبة: أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن معين: ثبتٌ في الحديث. وقال أيضًا: كان ثِقَةً، وكان حسن الحديث - أي: في سياقه للمتون -. وقال العجلي، وابن سعد: ثِقَةٌ. وقال ابن حبَّان: كان من أحسن الناس سياقًا للأخبار وأحفظهم لمتونها. وقال البخاري: مُحَمَّد بْن إِسْحَاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها لا يشاركه فِيهَا أحد - وهذا دليلٌ على سعة مروياته -. وَقَال ابن البرقي: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه. واستشهد به البخاري في "الصحيح"، وروى له في "القراءة خلف الإمام" وغيره، وروى لَهُ مسلم في المتابعات، واحتج بِهِ الباقون.
- وقال شعبة، وابن معين، وأبو زرعة: صدوقٌ في الحديث. وقال عليّ بن المدينيّ: صَدُوقٌ؛ وَالدَّلِيل على صدقه، أَنَّهُ مَا روى عَنْ أحد من الجلة إِلَّا وروى عَنْ رجل عَنْهُ فَهَذَا يدل على صدقه. وقال أحمد: حسنُ الحديث. وقال ابن عدي: وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد فِي أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، ورُبما أخطأ أو وهم فِي الشيء بعد الشيء كما يُخطئ غيره، ولم يتخلف عنه فِي الرواية عنه الثقات والأئمة، وَهو لا بأس به. وقال الذهبي في "الكاشف": كان صدوقًا من بُحور العلم، وله غرائب في سعة ما روى تُسْتَنْكر، واختلف في الاحتجاج به، وحديثه حسنٌ، وقد صَحَّحَه جماعةٌ. وفي "المغني": أحدُ الْأَعْلَام صَدُوقٌ، قوي الحَدِيث، إِمَامٌ لا سِيَّمَا في السّير. وفي "تاريخ الإسلام": الَّذِي استقر عَلَيْهِ الأمر أن ابن إسحاق صالح الحديث، وأنه في المغازي أقوى مِنْهُ في الأحكام. وفي "تذكرة الحفاظ": أحد أوعية العلم، حَبْرًا في معرفة المغازي والسير، وليس بذاك المُتْقِن فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوقٌ في نفسه مرضي. وفي "الميزان": وهو صالح الحديث، ماله عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة، والأشعار المكذوبة. ثُمَّ توسَّع في ترجمته، فعرض عامة الأقوال فيها على اختلافها توثيقًا وتجريحًا، وردَّ على مَنْ كَذَّبه، أو نسبه إلى ما يقتضي رد حديثه مُطلقًا، أو شدة ضعفه، وفي نهاية عرضه للآراء، وما ذكره مِنْ الرُدود، قال: فالذي يظهر لي، أنَّ ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوقٌ، وما انفرد به ففيه نكارةٌ، فإنَّ في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة.
وأمَّا في كتابه "السير" - الذي بَيَّضه بعد تأليفه للميزان بوقت قصير -، قال: وهذان الرجلان - يقصد ابن إسحاق، ومالك لما كان بينهما مما هو معروفٌ - كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثَّر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد مُنْكَرًا، هذا الذي عندي في حاله. وكلام الذهبي يُشير إلى اختياره تصحيح حديث ابن إسحاق في السير ونحوها، وتحسين حديثه في الأحكام،