للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مُسْتَكْبِرٌ": قال القاضي عياض: وتخصيص هؤلاء سببه أنَّ كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بُعْدِها مِنْه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لمَّا لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإنَّ الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مَرَّ عليه مِن الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا ويخلي سره منه، فكيف بالزنى الحرام! وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن؛ … وكذلك العائل الفقير قد عُدِمَ المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء: الثروة في الدنيا لكونه ظاهراً فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؛ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى. (١)

وقال الإمام النووي: وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»: فقد اختلف في تأويله: فذكر الخطابي فيه وجهين: أحدهما: أنَّ المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه. والثاني: أنَّه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله - جل جلاله - {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (٢). وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ؛ فإنَّ هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو: الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق، فلا ينبغي أن يُحمل على هذين التأويلين المُخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر: ما اختاره عياض وغيره مِن المُحَقِّقين أنَّه لا يدخل الجنة دون مجازاةٍ إن جازاه. وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه. وقد يَتَكَرم بأنَّه لا يُجازيه، بل لا بد أن يَدخل كل الموحدين الجنة إما أولاً، وإمَّا ثانياً، بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها. وقيل: لا يدخلها مع المتقين أول وهلة. (٣)

* * *


(١) يُنظر: "المنهاج شرح مسلم" (٢/ ١١٧ - ١١٨).
(٢) سورة "الأعراف" آية (٤٣)، وسورة "الحجر" آية (٤٣).
(٣) يُنظر: "المنهاج شرح مسلم" (٢/ ٩١)، "فتح الباري" لابن حجر (٤٩٠ - ٤٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>