وَقَدْ قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ سِيرِينَ: وَقَدْ أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ - بِجَارِي عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى - فَقَالَ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] إنَّمَا مُرَادُهُ إلَى الْخُطْبَةِ وَجَعَلَ هَذَا حُجَّةً فِي إيجَابِ فَرْضِهَا؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَمَنْ لِهَذَا الْمُقْدِمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الْخُطْبَةَ؟ بَلْ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا يُكَذِّبَانِ ظَنَّهُ الْفَاسِدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] .
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة: ١٠] .
فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا افْتَرَضَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ إذَا نُودِيَ لَهَا، وَأَمَرَ إذَا قُضِيَتْ بِالِانْتِشَارِ وَذَكَرَهُ كَثِيرًا.
فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِالسَّعْيِ لَهُ هُوَ الصَّلَاةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّمْجِيدِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدِ لَا غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا الْجَاهِلُ لَكَانَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا وَأَدْرَكَ الصَّلَاةَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ السَّعْيِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ هَذَا، وَقَدْ قَالَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَلَا يَكْذِبُونَ ثَانِيَةً فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مُمَوِّهِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُصَلِّهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطُّ إلَّا بِخُطْبَةٍ؟ قُلْنَا: وَلَا صَلَّاهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطُّ إلَّا بِخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا، فَاجْعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ فَرْضًا لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا بِهِ، وَلَا صَلَّى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطُّ إلَّا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، فَأَبْطِلُوا الصَّلَاةَ بِتَرْكِ ذَلِكَ
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ فَاقْتِدَاءٌ بِظَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ تَكْبِيرَةٌ، وَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِإِيجَابِهِ الْخُطْبَةَ فَرْضًا، لِأَنَّ التَّكْبِيرَةَ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً، وَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا جَازَ هَذَا عِنْدَكُمْ فَلِمَ لَا أَجْزَأَتْ عَنْ الْخُطْبَةِ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَهِيَ ذِكْرٌ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute