ثُمَّ لَوْ صَحَّ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِيَقِينٍ وَلَمْ يَصِحَّ خَبَرُ مَيْمُونَةَ لَكَانَ خَبَرُ عُثْمَانَ هُوَ الزَّائِدُ الْوَارِدُ بِحُكْمٍ لَا يَحِلُّ خِلَافُهُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مُذْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَلَالٌ فِي كُلِّ حَالٍ لِلصَّائِمِ، وَالْمُحْرِمِ، وَالْمُجَاهِدِ، وَالْمُعْتَكِفِ، وَغَيْرِهِمْ، هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ.
ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ لَا يَنْكِحَ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحَ، وَلَا يَخْطُبَ كَانَ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ نَاسِخًا لِلْحَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْإِبَاحَةِ، لَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا أَصْلًا، وَكَانَ يَكُونُ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخًا بِلَا شَكٍّ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْحَالَةِ الْمَنْسُوخَةِ بِيَقِينٍ.
وَمَنْ ادَّعَى فِي حُكْمٍ قَدْ صَحَّ نَسْخُهُ وَبُطْلَانُهُ أَنَّهُ قَدْ عَادَ حُكْمُهُ وَبَطَلَ نَسْخُهُ فَقَدْ كَذَبَ أَوْ قَطَعَ بِالظَّنِّ إنْ لَمْ يُحَقِّقْ ذَلِكَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْيَقِينِ لِلظُّنُونِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَالُوا: لَمَّا حَلَّ لَهُ شِرَاءُ جَارِيَةٍ لِلْوَطْءِ وَلَا يَطَأُ: حَلَّ لَهُ نِكَاحُ زَوْجَةٍ لِلْوَطْءِ وَلَا يَطَأُ؟ فَقُلْنَا لَهُمْ: لَوْ اسْتَعْمَلْتُمْ هَذَا فِي قَوْلِكُمْ: لَا يَكُونُ صَدَاقٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْفَرْجُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: كَمَا حَلَّ لَهُ اسْتِبَاحَةُ فَرْجِ جَارِيَةٍ مُحْرِمَةٍ بِأَنْ يَبْتَاعَهَا بِدِرْهَمٍ حَلَّ لَهُ فَرْجُ زَوْجَةٍ مُحْرِمَةٍ بِأَنْ يَصْدُقَهَا دِرْهَمًا؟ وَالْقِيَاسَاتُ لَا يُعَارَضُ بِهَا الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَقَالُوا: كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُطَلَّقَةَ فِي عِدَّتِهَا جَازَ لَهُ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ؟ فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قِيَاسُ النِّكَاحِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ حَقًّا لَوَجَبَ أَنْ يَقُولُوا: كَمَا جَازَتْ الْمُرَاجَعَةُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا إذْنِ وَلِيِّهَا، وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ: وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا إذْنِ وَلِيِّهَا وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ قِيَاسَاتِهِمْ السَّخِيفَةِ؟ وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا نِكَاحَ الْمَوْهُوبَةِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ صَدَاقٌ، وَمَنَعُوا مِنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ فِي الْأَوَامِرِ: هَذَا نَدْبٌ.
كَقَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» إنَّمَا هُوَ نَدْبٌ.
فَهَلَّا قَالُوا: هَاهُنَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ» : هَذَا نَدْبٌ؟ وَلَكِنَّهُمْ إنَّمَا يَجْرُونَ عَلَى مَا سَنَحَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute