فَإِنْ قَالُوا: الْكَأْسُ الْآخِرَةُ؟ قُلْنَا لَهُمْ: قَدْ يَكُونُ مِنْ أُوقِيَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ، وَأَكْثَرَ، فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَكُونُ هُنَالِكَ كَأْسٌ، بَلْ يَضَعُ الشَّرِّيبُ فَاهُ فِي الْكُوزِ فَلَا يُقْلِعُهُ عَنْ فَمِهِ حَتَّى يَسْكَرَ فَظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ فِي الْكَأْسِ. فَإِنْ قَالُوا: الْجَرْعَةُ الْآخِرَةُ؟ قُلْنَا: وَالْجُرَعُ تَتَفَاضَلُ فَتَكُونُ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ جِدًّا، وَتَكُونُ مِنْهَا مِلْءُ الْحَلْقِ، فَأَيُّ ذَلِكَ هُوَ الْحَرَامُ، وَأَيُّهُ هُوَ الْحَلَالُ؟ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ فِي الْجَرْعَةِ أَيْضًا. فَإِنْ قَالُوا: آخِرُ نُقْطَةٍ؟ قُلْنَا: النُّقَطُ تَتَفَاضَلُ فَمِنْهَا كَبِيرٌ، وَمِنْهَا صَغِيرٌ حَتَّى نَرُدَّهُمْ إلَى مِقْدَارِ الصُّوَّابَةِ، وَيَحْصُلُوا فِي نِصَابِ مَنْ يَسْخَرُ بِهِمْ وَيَتَطَايَبُ بِأَخْبَارِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَحُدُّوا فِي ذَلِكَ حَدًّا كَانُوا قَدْ نَسَبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا مِقْدَارًا مَا فَصَّلَهُ عَمَّا أَحَلَّ وَذَلِكَ الْمِقْدَارُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، وَهَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَتَحْرِيمُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَى مَا هُوَ وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا. فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ تُحَرِّمُونَ الْإِكْثَارَ الْمُهْلِكَ أَوْ الْمُؤْذِيَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ فَحُدُّوهُ لَنَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ وَالرِّيِّ الْمَحْسُوسَيْنِ بِالطَّبِيعَةِ اللَّذَيْنِ يُمَيِّزُهُمَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى الطِّفْلُ الرَّضِيعُ وَالْبَهِيمَةُ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي عَقْلٍ إذَا بَلَغَ شِبَعُهُ قَطَعَ إلَّا الْقَاصِدُ إلَى أَذَى نَفْسِهِ وَاتِّبَاعِ شَهْوَتِهِ فَكَيْفَ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَحْتَمِلُ أَلْبَتَّةَ هَذَا التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ؟ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ حَرَامٌ» إشَارَةٌ إلَى عَيْنِ الشَّرَابِ قَبْلَ أَنْ يُشْرَبَ لَا إلَى آخِرِ شَيْءٍ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَأْسَ الْأَخِيرَ الْمُسْكِرَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أَسْكَرَتْ الشَّارِبَ بِالضَّرُورَةِ يُدْرَى هَذَا، بَلْ هِيَ وَكُلُّ مَا شُرِبَ قَبْلَهَا وَقَدْ يَشْرَبُ الْإِنْسَانُ فَلَا يَسْكَرُ، فَإِنْ خَرَجَ إلَى الرِّيحِ حَدَثَ لَهُ السُّكْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ حَرَّكَ رَأْسَهُ حَرَكَةً قَوِيَّةً، فَأَيُّ أَجْزَاءِ شَرَابِهِ هُوَ الْحَرَامُ حِينَئِذٍ؟ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَقُولُ لَهُمْ إذَا قُلْتُمْ: إنَّ الْكَأْسَ الْأَخِيرَةَ هِيَ الْمُسْكِرَةُ فَأَخْبِرُونَا مَتَى صَارَتْ حَرَامًا مُسْكِرَةً؟ أَقْبَلَ شُرْبِهِ لَهَا، أَمْ بَعْدَ شُرْبِهِ لَهَا، أَمْ فِي حَالِ شُرْبِهِ لَهَا؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ رَابِعٍ. فَإِنْ قَالُوا: بَعْدَ أَنْ شَرِبَهَا؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُحَرَّمْ إلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ لَهَا فَقَدْ كَانَتْ حَلَالًا حِينَ شُرْبِهِ لَهَا وَقَبْلَ شُرْبِهِ لَهَا، وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute