وَقَالُوا: إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِضِيقِ الْعَيْشِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ السَّرَفِ - وَهَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ عَلَى قَائِلِهِ مَقْتَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَمَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ بَارِدٌ مِنْ الْكَذِبِ سَخِيفٌ مِنْ الْبُهْتَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ قَطُّ عِنْدَ ذِي عَقْلٍ رِطْلُ تَمْرٍ وَرِطْلُ زَبِيبٍ، سَرَفًا، أَوْ رِطْلُ زَهْوٍ وَرِطْلُ بُسْرٍ سَرَفًا، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ قَرِيبٌ، وَهُمَا بِلَادُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ.
ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ، وَرِطْلَ زَبِيبٍ، أَوْ رِطْلَ زَهْوٍ، وَرِطْلَ رُطَبٍ يُجْمَعَانِ سَرَفًا يَمْنَعُ مِنْهُ ضِيقُ الْعَيْشِ فَيُنْهَوْنَ عَنْهُ لِذَلِكَ - وَلَا يَكُونُ مِائَةَ رِطْلِ تَمْرٍ، وَمِائَةَ رِطْلِ زَبِيبٍ، وَمِائَةَ رِطْل عَسَلٍ يُنْبَذُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ سَرَفًا. وَكَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ، وَرِطْلَ زَهْوٍ يُنْبَذَانِ مَعًا سَرَفًا وَلَا وَيَكُونُ أَكْلُهُمَا مَعًا سَرَفًا؟ كَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فِي الْأَكْلِ مَعًا، لَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ سُخْفِ الْعَقْلِ، مَنْ هَذَا مِقْدَارُ عَقْلِهِ، وَلَقَدْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَكْلَ الدَّجَاجِ وَالنِّقْيِ وَالسُّكَّرِ أَدْخَلُ عَلَى أُصُولِكُمْ الْفَاسِدَةِ فِي السَّرَفِ، وَأَبْعَدُ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ، ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ، فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي ذَلِكَ؟ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ ذُو سَعَةٍ مِنْ الْمَالِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَوِي الْيَسَارَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ «ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ» وَكَانَ فِيهِمْ عُثْمَانُ؛ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَغَيْرُهُ وَفِينَا نَحْنُ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُو ضِيقٍ مِنْ الْعَيْشِ وَفَاقَةٍ شَدِيدَةٍ، فَالْعِلَّةُ بَاقِيَةٌ بِحَسْبِهَا، فَالنَّهْيُ بَاقٍ وَلَا بُدَّ، اسْخَفُوا مَا شِئْتُمْ لَأَنْ تُفَوِّتُوا حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: أَنْبِذُ نَبِيذَ زَبِيبٍ فَيُلْقَى لِي فِيهِ تَمْرٌ فَيَفْسُدُ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ - وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ مَجْهُولٌ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الرُّجُوعُ عَنْ هَذَا - كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِزَبِيبٍ وَتَمْرٍ أَنْ يُنْبَذَا لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ - قَالَ نَافِعٌ: فَلَا أَدْرِي أَلِشَيْءٍ ذَكَرَهُ أَمْ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ؟ فَصَحَّ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّهْيَ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute