مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَحُقُوقُ النَّاسِ جَائِزٌ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ آجَالِهَا - وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمِنْ فَرَائِضِ الْأَبَدَانِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَدَانِ لَا يُجْزِئُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ أَوْقَاتِهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إنَّمَا تَجِبُ بِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَعًا، لَا بِرِضَا أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَجِبُ أَيْضًا فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْإِنْسَانِ بِعَيْنِهِ فَتَرَاضَى هُوَ وَغَرِيمُهُ عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ إسْقَاطِهِ أَوْ إسْقَاطِ بَعْضِهِ.
وَأَمَّا كُلُّ مَا لَيْسَ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَقْتُهُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ، وَلَيْسَ هَهُنَا مَالِكٌ بِعَيْنِهِ يَصِحُّ رِضَاهُ فِي تَقْدِيمِهِ، لَا فِي تَأْخِيرِهِ، وَلَا فِي إسْقَاطِهِ، وَلَا فِي إسْقَاطِ بَعْضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ فِيهِ إلَّا مَا حُدَّ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: ١] .
وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: إنَّ حُقُوقَ النَّاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّأْخِيرُ وَالْإِسْقَاطُ، فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَاتِ الْإِسْقَاطُ، أَوْ التَّأْخِيرُ إلَى أَجَلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ؟ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا هَهُنَا فَقَدْ تَنَاقَضُوا جِدًّا لِأَنَّهُمْ أَجَازُوا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ إثْرَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ.
وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ إثْرَ كَسْبِ الْمَالِ لَكِنْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا أَجَازُوا تَقْدِيمَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إثْرَ ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَكِنْ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ فَأَقَلَّ فَقَطْ.
وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَصْلًا، وَلَا بِسَاعَةٍ قَبْلَ مَا يُوجِبُهَا عِنْدَهُمْ مِنْ إرَادَةِ الْوَطْءِ، وَلَا أَجَازُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ قَبْلَ مَا يُوجِبُهَا مِنْ مَوْتِ الْمَقْتُولِ وَلَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَا كَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ قَتْلِهِ.
وَأَجَازُوا إذْنَ الْوَرَثَةِ لِلْمُوصِي فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لَهُمْ الْمَالُ بِمَوْتِهِ، فَظَهَرَ تَنَاقُضُ أَقْوَالِهِمْ - وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute