وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي كُلِّ شَجَرٍ قَائِمِ الْأَصْلِ إلَّا فِيمَا يُخْلَفُ وَيُجْنَى مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَلَمْ يُجِزْ فِيهَا، وَلَا أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْبُقُولِ إلَّا فِي السَّقْيِ خَاصَّةً.
وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، إلَّا فِي النَّخْلِ، وَالْعِنَبِ فَقَطْ - وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، إلَّا فِي النَّخْلِ فَقَطْ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي النَّخْلِ وَحْدَهُ، أَوْ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، أَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي سَقْيٍ دُونَ بَعْلٍ، فَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَدَخَلُوا فِي الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالُوا: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ وَلَا إعْطَاءُ الشَّجَرِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا: إجَارَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ إنَّمَا هِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: ٢٣] .
وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلَّا أَبْطَلْتُمْ بِهَذَا الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ الْمُضَارَبَةَ، وَقُلْتُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْمُضَارَبَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا: وَدَفْعُ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَدَفْعُ الشَّجَرِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا تُحَاشِ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَمَا غَابَ مِنْهُمْ عَنْ خَيْبَرَ إلَّا مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ وِلَايَةٍ تَشْغَلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ غَابَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَرَفَ أَمْرَ خَيْبَرَ، وَاتَّصَلَ الْأَمْرُ فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ إلَى آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ - فَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ، لَا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي لَا تُرْوَى إلَّا عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَاعْتَرَضُوا فِي أَمْرِ خَيْبَرَ بِأَنْ قَالُوا: لَا يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَمُعَامَلَةُ الْمَرْءِ لِعَبْدِهِ بِمِثْلِ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَيَكُونُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةً وَلَا زَكَاةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute