للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قَالُوا: أَخَذْنَا بِالْمُرْسَلِ فِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّهَا؟ قُلْنَا: وَمَا الَّذِي جَعَلَ الْمُرْسَلَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الْمُرْسَلِ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّهَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بِرَدِّهَا، بَلْ قَدْ يَهَبُهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مَا لَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ فَيُعْطِيهِ إيَّاهُ إلَّا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ - فَهَذَا حَسَنٌ وَإِعْطَاءٌ حَلَالٌ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ لِكَذِبِهِ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَطْلَقَ يَدَ الْفَاسِقِ عَلَى حَرَامٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ حَرَامًا إذْ كَانَ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ عَمْدًا وَظُلْمًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢] وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ.

وَعَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ الثَّابِتِ فِي أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» ؛ لِأَنَّهُ بِزَعْمِهِمْ خِلَافُ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَرَدُّوا الْخَبَرَ الثَّابِتَ فِي تَغْرِيبِ الزَّانِي سَنَةً؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: لَا نَأْخُذُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَفَعَلُوا هَذَا كُلُّهُمْ فِي جَلْدِ الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ، ثُمَّ لَا يُبَالُونَ هَهُنَا بِالْأَخْذِ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ لَا يَصِحُّ، مُخَالِفٍ - بِزَعْمِهِمْ - لِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ؟ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْهَذْرِ وَالتَّخْلِيطِ فَأَتَوْا بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ صِحَاحٍ، كَمَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ - وَكَابْتِيَاعِهِ الْبِكْرَ مِنْ عُمَرَ، وَالْجَمَلَ مِنْ جَابِرٍ، وَابْتِيَاعِ بَرِيرَةَ، وَابْتِيَاعِ صَفِيَّةَ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدَيْنِ، وَالثَّوْبَ بِالثَّوْبَيْنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ.

وَكُلُّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ، قَالُوا: وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْإِشْهَادِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُشْهِدْ، وَلَا أَنَّهُ أَشْهَدَ.

وَوَجَدْنَا أَكْثَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ ثَمَنٍ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْإِشْهَادِ، وَلَيْسَ تَرْكُ ذِكْرِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ بِمُسْقِطٍ لَهَا، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: ٦٠] لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمَآكِلِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>