وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا أُبَيٌّ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ» .
فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فِي السُّوقِ إلَّا أَنَّهُ فِي أَعْلَاهُ، وَفِي الْجُزَافِ خَاصَّةً فَنُهِيَ الْمُشْتَرُونَ عَنْ ذَلِكَ - وَاحْتَجَّ أَيْضًا بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ طَرِيفٍ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً عَنْ هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ: فَمَنْ اشْتَرَاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا بِهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْخَبِيثَةِ فِي الْإِيهَامِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ - وَهُمْ لَا يَأْتُونَ بِشَيْءٍ - لِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ بَاطِلٌ، وَلَوْ جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَكَانَ مُجْمَلًا تُفَسِّرُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا هُوَ لِلْبَائِعِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ سِيرِينَ فِي فُتْيَاهُمَا.
ثُمَّ هَبْكَ لَوْ صَحَّ خِيَارٌ آخَرُ لِلْمُشْتَرِي فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي هَذَا؟ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، فَلَوْ كَانَ هَهُنَا حَيَاءٌ، أَوْ وَرَعٌ لَرَدَعَ عَنْ التَّمْوِيهِ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا هُوَ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّمَا أَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَذَا حِيَاطَةً لِلْجُلَّابِ دُونَ أَهْلِ الْحَضَرِ -
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ حِيَاطَةً عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ دُونَ الْجُلَّابِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، وَمَا حِيَاطَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْحَضَرِ إلَّا كَحِيَاطَتِهِ لِلْجُلَّابِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨] .
فَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذُو رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْجَالِبِينَ، وَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَكُلُّهُمْ فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا الشَّرَائِعُ يُوحِيهَا إلَيْهِ بَاعِثُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤَدِّيهَا كَمَا أُمِرَ، لَا يُبَدِّلُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، وَلَا عِلَّةَ لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إلَّا مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute