للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَصَلَ قَوْلُهُ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ - نَعْنِي تَخْصِيصَهُ أَنَّ الَّذِينَ أُبِيحَ لَهُمْ ابْتِيَاعُ الرُّطَبِ بِخَرْصِهِ تَمْرًا إنَّمَا هُمْ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ الرُّطَبَ لِيَأْكُلُوهُ فَقَطْ.

ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ: إنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ ثَمَرُ نَخْلٍ تُجْعَلُ لِآخَرِينَ - وَقَوْلَهُ: إنَّ الَّذِينَ جَعَلُوهُ يَسْكُنُونَ بِأَهْلِيهِمْ فِي الْحَائِطِ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ النَّخْلُ - وَقَوْلَهُ: إنَّ أَصْحَابَ النَّخْلِ يُنَادُونَ بِدُخُولِ الَّذِينَ جَعَلَ لَهُمْ تِلْكَ النَّخْلَ أَقْوَالًا ثَلَاثَةً؟ لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، لَا فِي قُرْآنٍ، وَلَا فِي سُنَّةٍ، وَلَا فِي رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلَا فِي قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلَا تَابِعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا لُغَةٍ، وَلَا رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا نَعْلَمُهُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.

ثُمَّ الشُّنْعَةُ وَالْأُعْجُوبَةُ الْعَظِيمَةُ قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا نَسِيئَةً إلَى الْجِدَادِ، وَلَا يَجُوزُ نَقْدًا أَصْلًا - وَهَذَا هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ جِهَارًا، ثُمَّ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ - وَلَا نَعْلَمُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ حَرَامٌ مَكْشُوفٌ لَا يَحِلُّ أَصْلًا، وَإِنَّمَا حَلَّ هَهُنَا الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَقَطْ، وَوَجَدْنَا النَّسِيئَةَ فِيمَا فِيهِ الرِّبَا حَرَامًا بِكُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا حَلَّ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ هَهُنَا لَمْ يَجُزْ إلَّا يَدًا بِيَدٍ وَلَا بُدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ إلَّا إمَّا نَقْدًا وَإِمَّا نَسِيئَةً، فَالنَّسِيئَةُ حَرَامٌ: لِأَنَّهُ رِبًا فِي كُلِّ مَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا بِلَا خِلَافٍ - وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى - يَعْنِي اشْتِرَاطَ تَأْخِيرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا النَّقْدُ فَلَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَجَدْنَاهُ أَبْعَدَ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ جَمِيعَ الْآثَارِ كُلِّهَا جِهَارًا، وَأَتَى بِدَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُ.

وَالْخَبَرُ فِي اسْتِثْنَاءِ جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِأَهْلِ الْعَرَايَا خَاصَّةً مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ: رَوَاهُ رَافِعٌ، وَسَهْلٌ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ فِي آخَرِينَ سِوَاهُمْ كُلُّ مَنْ سَمَّيْنَا هُوَ عَنْهُمْ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ - فَخَالَفُوا ذَلِكَ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ.

وَالْبُرْهَانُ لِصِحَّةِ قَوْلِنَا -: هُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَالِكٍ: أَنَّ دَاوُد بْنَ الْحُصَيْنِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» يَشُكُّ دَاوُد.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَالْيَقِينُ وَاقِعٌ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِلَا شَكٍّ، فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِيمَا حَرُمَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاحَ مُتَيَقَّنُ الْحَرَامِ بِشَكٍّ، وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>