وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِقَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، فَمَا حَرَّمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطُّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَخْذَ مَالٍ يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ، إلَّا أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ اتَّقُوا مَا الْأَغْلَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ حَرَامٌ، فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّصِيحَةِ بِأَخْذِهِ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ اتَّقَاهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ فَيُؤْجَرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا بُرْهَانٌ ظَاهِرٌ لَائِحٌ.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ -: وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ، وَالْعَمَلِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ يَسْتَسْهِلُ بِلَا مُؤْنَةٍ أَخْذَ مَالِ زَيْدٍ فِي بَيْعٍ يَبِيعُهُ مِنْهُ، أَوْ فِي إجَارَةٍ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، لَهُ، ثُمَّ يَتَجَنَّبُ أَخْذَ مَالِ ذَلِكَ الزَّيْدِ نَفْسِهِ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ طَيِّبَ النَّفْسِ بِهِ، فَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَّقِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمَالِ خَبِيثًا فَقَدْ أَخَذَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ رِيَاءً مَشُوبًا بِجَهْلٍ.
فَإِنَّ قِيلَ: يَكْرَهُ الْمَرْءُ أَخْذَهُ؟ قِيلَ: هَذَا خِلَافُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّغْبَةُ عَنْ سُنَّتِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا -: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ - هُوَ الْأَعْمَشُ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ» وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ فَمَا وُفِّقَ لِخَيْرٍ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَانَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرُدَّانِ مَا أُعْطِيَا، وَلَا يَسْأَلَانِ أَحَدًا شَيْئًا، فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ «إذْ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» .
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هِبَةً إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute