ثُمَّ يَنْقَسِمُ هَذَا الْقِسْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ يَكُونَ أَغْلَبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنًا عَلَى السَّوَاءِ.
فَإِنْ كَانَ مُوقِنًا أَنَّهُ حَرَامٌ وَظُلْمٌ وَغَصْبٌ، فَإِنْ رَدَّهُ فَهُوَ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى ظَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ يُعِينُ بِهِ ظَالِمًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِبْقَائِهِ عِنْدَهُ، وَلَا يُعِينُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي انْتِزَاعِهِ مِنْهُ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢] .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ صَاحِبَهُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ.
فَهُنَا زَادَ فِسْقُهُ، وَتَضَاعَفَ ظُلْمُهُ، وَأَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ، وَصَارَ أَظْلَمَ مِنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْمَظْلِمَةِ إلَى صَاحِبِهَا وَعَلَى إزَالَتِهَا عَنْ الظَّالِمِ فَلَمْ يَفْعَلْ، بَلْ أَعَانَ الظَّالِمَ، وَأَيَّدَهُ وَقَوَّاهُ، وَأَعَانَ عَلَى الْمَظْلُومِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ فَكُلُّ مَالٍ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ، إذْ مَنَعَ الْمَسَاكِينَ وَالْفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ حَقَّهُمْ، وَأَعَانَ عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَقَوَّى الظَّالِمَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَ يُوقِنُ أَنَّهُ حَلَالٌ فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ مُكْتَسِبٌ بِذَلِكَ حَسَنَاتٍ جَمَّةٍ بِلَا شَكٍّ، فَهُوَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ مَا أَعْطَاهُ غَيْرُ نَاصِحٍ، لَهُ، إذْ مَنْعُهُ الْحَسَنَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» فَمَنْ لَمْ يَنْصَحْ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ إنْ رَدَّهُ لَا يَحْضُرُ الْمَرْدُودَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ أُخْرَى فِي بَذْلِهِ، فَيَكُونُ قَدْ حَرَمَهُ الْأَجْرَ وَصَدَّ عَنْ سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ فَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ مَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ إلَّا فِي الْيَسِيرِ الَّذِي يُوقِنُ فِيهِ أَنَّهُ حَلَالٌ، أَوْ أَنَّهُ حَرَامٌ، فَلَوْ حَرُمَ أَخْذُ هَذَا لَحَرُمَتْ الْمُعَامَلَاتُ كُلُّهَا إلَّا فِي النَّادِرِ الْقَلِيلِ جِدًّا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute