لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ لِمَنْ عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ - بِمَعْنَى عَقَدَ أَنْ يُطَلِّقَ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ، فَلَيْسَ الطَّلَاقُ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُوقَعَ؟ وَقَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِنْ أَرْذَلِ قِيَاسَاتِهِمْ وَأَظْهَرِهَا فَسَادًا، إلَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَافِذَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ طَلَّقَ الْحَيُّ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجُزْ.
وَالْوَصِيَّةُ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ هِيَ فَرْضٌ وَالطَّلَاقُ لَيْسَ فَرْضًا وَلَا مَنْدُوبًا إلَيْهِ - وَمَا وَجَدْنَا لَهُمْ شَغَبًا غَيْرَ هَذَا.
وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ مَوْضُوعَةٌ، فِيهَا يَاسِينُ - وَهُوَ هَالِكٌ - وَأَبُو مُحَمَّدٍ - مَجْهُولٌ - ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي سَلَمَةَ، وَعُمَرَ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ أَلْزَمَهُ إنْ خَصَّ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ إنْ عَمَّ، فَوَجَدْنَاهُ فَرْقًا فَاسِدًا، وَمُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ حُجَّةً أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إذَا عَمَّ فَقَدْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ؟ فَقُلْنَا: مَا ضَيَّقَ، بَلْ لَهُ فِي الشِّرَاءِ فُسْحَةٌ، ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ فَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ الضِّيقَ فِي مِثْلِ هَذَا يُبِيحُ الْحَرَامَ؟ وَأَيْضًا - فَقَدْ يَخَافُ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ نِكَاحِ الَّتِي خَصَّ طَلَاقَهَا إنْ تَزَوَّجَهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ لَوْ عَمَّ لِكَلَفِهِ بِهَا - فَوَضَح فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ لِتَعَرِّيهِ عَنْ الْبُرْهَانِ جُمْلَةً.
وَوَجَدْنَاهُ أَيْضًا - لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ إمَّا مُنْقَطِعٌ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَرْهَبِيِّ - وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى قَوْلِنَا فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١]
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: ٤٩] فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ حِينَ إيقَاعِهِ، ثُمَّ يَقَعَ حِينَ لَمْ يُوقِعْهُ إلَّا بِبُرْهَانٍ وَاضِحٍ - وَوَجَدْنَاهُ إنَّمَا طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً، وَطَلَاقُ الْأَجْنَبِيَّةِ بَاطِلٌ.
وَالْعَجَبُ - أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute