قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: احْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ قَالُوا: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» .
قَالُوا: فَلَمَّا جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ مَا اُسْتُعْمِلَ لِطَرْدِ الْجُوعِ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي السَّقْيِ وَالْأَكْلِ؟
فَقُلْنَا: هَذَا لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَا يُوجَدُ فِي السَّعُوطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُوعِ، فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا: بَلْ يُدْفَعُ.
قُلْنَا: لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ حَظَّ السَّعُوطِ مِنْ ذَلِكَ كَحَظِّ الْكُحْلِ وَالتَّقْطِيرِ فِي الْعَيْنِ بِاللَّبَنِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاصِلٌ إلَى الْحَلْقِ إلَى الْجَوْفِ، فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْكُحْلِ بِهِ وَبَيْنَ السَّعُوطِ بِهِ؟
هَذَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ مَنْ قَطَّرَ شَيْئًا مِنْ الْأَدْهَانِ فِي أُذُنِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ، وَكَذَلِكَ إنْ احْتَقَنَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَلَمْ يُحَرِّمُوا بِهِ فِي اللَّبَنِ يُحْقَنُ بِهَا أَوْ يُكْتَحَلُ بِهِ - وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ - فَلِمَ فَطَّرْتُمْ بِهِ الصَّائِمَ؟ وَهَذَا تَلَاعُبٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ جُعِلَ لَبَنُ الْمَرْأَةِ فِي طَعَامٍ وَطُبِخَ وَغَابَ اللَّبَنُ أَوْ صُبَّ فِي مَاءٍ فَكَانَ الْمَاءُ هُوَ الْغَالِبَ فَسُقِيَ الصَّغِيرُ ذَلِكَ الْمَاءَ أَوْ أُطْعِمَ ذَلِكَ الطَّعَامَ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَأَيْضًا - فَإِنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ بِالنُّقْطَةِ تَصِلُ إلَى جَوْفِهِ وَهِيَ لَا تَدْفَعُ عِنْدَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَجَاعَةِ فَظَهَرَ خِلَافُهُمْ لِلْخَبَرِ الَّذِي مَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي -: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا حَرَّمَ بِالرَّضَاعَةِ الَّتِي تُقَابَلُ بِهَا الْمَجَاعَةُ وَلَمْ يُحَرِّمْ بِغَيْرِهَا شَيْئًا فَلَا يَقَعُ تَحْرِيمٌ بِمَا قُوبِلَتْ بِهِ الْمَجَاعَةُ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ وَجُورٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةً كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: ٢٢٩] .
فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ مَوْلَى الْأَشْجَعِيِّ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إنِّي