للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ غَرَائِبِ الْقَوْلِ: احْتِجَاجُ الْحَنَفِيِّينَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ قَاتِلِ الْمُسْتَأْمَنِ فَلَا يُقِيدُونَهُ بِهِ، وَبَيْنَ قَاتِلِ الذِّمِّيِّ فَيُقِيدُونَهُ بِهِ.

فَإِنْ قَالُوا: الذِّمِّيُّ مَحْقُونُ الدَّمِ بِغَيْرِ وَقْتٍ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِوَقْتٍ ثُمَّ يَعُودُ دَمُهُ حَلَالًا إذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ؟ وَلَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَجَبَ إسْقَاطُ الْقَوَدِ بِهَذَا الْفَرْقِ، وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمُ الدَّمِ إذَا قُتِلَ: تَحْرِيمًا مُسَاوِيًا لِتَحْرِيمِ الْآخَرِ.

وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْحُكْمُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ - لَا بَعْدَ ذَلِكَ - وَلَعَلَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَا يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَعَلَّ الذِّمِّيَّ يَنْقُضُ الذِّمَّةَ وَيَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَعُودُ دَمُهُ حَلَالًا وَلَا فَرْقَ - وَحَسْبُك بِقَوْمٍ هَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ الَّذِي بِهِ يُحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ - وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَمَّا قَوْلُنَا: لَا دِيَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ الذِّمِّيَّ عَمْدًا، وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي قَتْلِهِ إيَّاهُ خَطَأً، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا - فَلِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِي أَوَّلِ كَلَامِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُؤْمِنِ الْمَقْتُولِ خَطَأً فَقَطْ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ فِي إيجَابِ دِيَةٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ، فِي قَتْلِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ خَطَأً.

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وَلَا يَجُوزُ عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ إلَّا عَلَى نَظِيرِهِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ نَظِيرَ الْمُؤْمِنِ وَلَا مَثَلًا، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ عَلَى أُصُولِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ، وَالْمَانِعِينَ مِنْهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ خَطَأً بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: ٩٢] الْآيَةَ فَعَمَّ بِهَذَا قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ خَطَأً، وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا مِنْ كَافِرٍ، وَلَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ يَخُصُّ ذَلِكَ - فَوَجَبَ إمْضَاؤُهَا عَلَى عُمُومِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>