أَنَّ حُكْمَهُ بِالدِّيَةِ بِذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ -: مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتْلَ عَمْدٍ وَلَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَيُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ نَاقِضِ الذِّمَّةِ، أَوْ قَتْلِ خَطَأٍ - فَإِنْ كَانَ قَتْلَ عَمْدٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَلْزَمُهُمْ دِيَةٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تُؤَدِّي عَنْ قَاتِلِ عَمْدٍ، وَلَا أَوْجَبَ ذَلِكَ نَصٌّ، فَبَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ.
وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ الْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ صَحَّ بِلَا شَكٍّ، وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ بِقَصْدٍ، وَمُمْكِنٌ أَنْ لَا يَكُونَ بِقَصْدٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ قَصَدُوهُ إلَّا بِبُرْهَانٍ مِنْ بَيِّنَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ نَصٍّ مُوجِبٍ لِذَلِكَ - فَبَقِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ نَفْسُهُ.
ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمْ بِخُرُوجِهِمْ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ يَنْقُضُونَ الذِّمَّةَ وَيَعُودُونَ حَرْبِيِّينَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَبَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ الْمَوْجُودِ إنْ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ حُكْمَ الْعَمْدِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إنْ حَلَفُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ وَلَاحَ وَجْهُ الْحَدِيثِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي حَدَّثَكُمْ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنْ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ» وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَقٌّ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُخَالِفَهُ، بَلْ هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا، وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُدْفَعَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ بِرُمَّتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي قَتْلَهُ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا اسْتِرْقَاقَهُ، لِأَنَّهُ عُمُومٌ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى لَفْظِهِ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute