للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْعَقْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَا يَخْلُو قَتِيلٌ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَكَذَا مَنْ أَصَابَهُ حَجَرٌ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ، أَوْ سَهْمٌ كَذَلِكَ وَلَا فَرْقَ - وَلَوْ أَنَّ امْرَأً خَرَجَ إلَيْهِ عَدُوٌّ فِي طَرِيقٍ فَقَتَلَهُ، وَجَمَاعَةٌ ثِقَاتٌ يَنْظُرُونَ إلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْقَاتِلَ مَنْ هُوَ؟ فَلَمَّا رَآهُمْ الْقَاتِلُ هَرَبَ وَصَارَ خَلْفَ رَبْوَةٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ، أَوْ فِي خَانٍ، فَاتَّبَعَتْهُ الْجَمَاعَةُ فَوَجَدُوا خَلْفَ الرَّابِيَةِ أَوْ الْخَانِ أَوْ الْبَيْتِ: جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ، أَوْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فِيهِمْ ثِقَاتٌ وَغَيْرُ ثِقَاتٍ، فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ دَخَلَ عِنْدَكُمْ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ: لَا نَدْرِي، كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا مَشْغُولٌ بِأَمْرِهِ. فَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: يُقْذَفُ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي الْخَانِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الرَّابِيَةِ فِي السِّجْنِ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ، حَتَّى يَكُونَ مَوْتُهُمْ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ الْحَيَاةِ - وَهَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ مُتَيَقَّنٌ، وَخَطَأٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مَظْلُومُونَ إلَّا وَاحِدًا، فَقَدْ أَقْدَمُوا عَلَى ظُلْمِ أَلْفِ إنْسَانٍ بِيَقِينٍ، وَهُمْ يَدْرُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لَهُمْ خَوْفَ أَنْ يُفْلِتَ ظَالِمٌ وَاحِدٌ لَا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ يَقْصِدَ إلَى أَهْلِ كُلِّ سُوقٍ فَيَقْذِفَهُمْ فِي الْحَبْسِ، لِأَنَّنَا نَدْرِي أَنَّ فِيهِمْ آكِلَ رِبًا بِيَقِينٍ، وَشَارِبَ خَمْرٍ بِيَقِينٍ.

وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي مَدِينَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ أَنْ يَسْجُنُوا جَمِيعَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلَ الْجَزِيرَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا أَفْحَشَ تَنَاقُضٍ.

وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَبْطَلَ هَذَا الْحُكْمَ الْفَاسِدَ بِفِعْلِهِ فِي أَهْلِ خَيْبَرَ، إذْ قُتِلَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَا سُجِنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَلْ قَنَعَ مِنْهُمْ بِالْأَيْمَانِ فَقَطْ عَلَى مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْ بِأَيْمَانِهِمْ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَيُبْطِلُ هَذَا أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم: ٢٣]

<<  <  ج: ص:  >  >>