للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ - فَوَجَدْنَاهُ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ بِلَا دَلِيلٍ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مَرَّةً غَلَّبَ مَنْ دَعَا إلَى الْقَتْلِ، وَذَلِكَ فِي الِابْنَةِ مَعَ الْعَصَبَةِ " فَرَأَى: إنْ دَعَا الْعَصَبَةُ إلَى الْقَتْلِ وَعَفَتْ الِابْنَةُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَصَبَةِ - وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا قَدْ يُدْخِلُهَا زَوْجُهَا إلَى الْعَفْوِ، وَأَمْرُهَا إلَى الضَّعْفِ، وَإِنْ عَفَا الْعَصَبَةُ وَدَعَتْ الِابْنَةُ إلَى الْقَتْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنَةِ - وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا الْمُصَابَةُ بِأَبِيهَا؟ فَمَرَّةً رَاعَى ضَعْفَهَا، وَإِدْخَالَ زَوْجِهَا لَهَا إلَى الْعَفْوِ، وَلَمْ يُرَاعِ مُصِيبَتَهَا؟ وَمَرَّةً غَلَّبَ مَنْ دَعَا إلَى الْعَفْوِ، وَذَلِكَ فِي الْبَنِينَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ دُونَ الْآخَرِينَ وَمَرَّةً غَلَّبَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَذَلِكَ فِي الْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ؟ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ظَاهِرَةُ التَّنَاقُضِ يَهْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لَا حُجَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، لَا فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا سَقِيمَةٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا فِي إجْمَاعٍ، وَلَا فِي قَوْلِ صَاحِبٍ - فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَسَقْطَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ.

ثُمَّ نَظَرْنَا فِي حُجَّةِ مَنْ أَجَازَ عَفْوَ كُلِّ وَارِثٍ وَغَلَّبَهُ، فَوَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: ٢٣٧] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] فَأَعْلَى مَا يُرِيدُهُ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ أَعْظَمَ أَجْرًا، وَالْقِصَاصُ - بِلَا شَكٍّ مُبَاحٌ - وَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا فَلَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْأَفْضَلِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ غَيْرَ رَاغِبٍ - فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ مَنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْوَرَثَةِ.

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ إنْ صَحَّ أَنَّهُ «لَمْ يُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ رُفِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ -» لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ مِنْ الْأُمَّةِ فِي أَنَّهُ إنْ صَحَّ فَإِنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ لَا أَمْرُ إلْزَامٍ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْأَفْضَلِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ غَيْرَ رَاغِبِ عَنْهُ - إذَا أَرَادَ مَا أُبِيحَ لَهُ - فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَعَلُّقٌ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَلَمَّا سَقَطَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَتَعَرَّتْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَجَبَ عَلَيْنَا إذْ

<<  <  ج: ص:  >  >>