من ألف، وباء، وجيم، ودال، متباينات الصّور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكير، ونتاجها التأليف؛ تخرس منفردة، وتنطق مزدوجة، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن مزوّرة، ولا حركات ظاهرة؛ ما خلا قلما جوّف باريه بطنه ليعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر منه إليه، وشقّ رأسه ليحتبس الاستمداد عليه؛ وأربع «١» من شفتيه، ليجمعا حواشي تصويره إليه، فهناك اشتدّ القلم برشفه، وقذف المادّة إلى صدره، ثم مجّها من شقّه بمقدار ما احتملت شفتاه بتخطيط أجزاء النقط التي أراد بها الخطوط، فالأبصار لها سامية، فإذا حكتها الألسن فالآذان لها واعية، وأولى أسمائها بها حينئذ الكلام الذي سدّاه «٢» العقل، وألحمه «٣» اللسان، وقطعته الأسنان، ولفظته الشّفتان، وصدّاه الجوّ وجرّعته الأسماع على أنحاء شتّى، وسمّيت بها الأشياء لتعريف متناكرها، وتمييز متشابهها، وتبيين معلومها من مجهولها. فمن ذلك فضل الكتاب الصّناعات.
وبالجملة فليس يذكر ذاكر شيئا يجري به الخاطر، أو يميل إليه العقل، أو يلقيه الفهم، أو يقع عليه الوهم، أو تدركه الحواسّ، إلا والكتاب والكلام موكّلان به، مدبّران له، معبّران عنه.
فلما أن تضمّنت الحروف الدلالة، وقامت الألفاظ بالعبارة، نطقت الأفواه بكل لغة، وتصرّف المنطق بكل جهة، فلم تكتف منه أمّة بأمة، ولم تستغن عنه ملّة دون ملّة، فعرّب ذلك بلغة العرب التي هي القاهرة لجميع اللّغات، المنظّمة لجميع المعاني في وجيز الصّفات.
ولو لم يكن من شرف الخط إلا أن الله تعالى أنزله على آدم أو هود عليهما السلام كما تقدّم ذكره، وأنزل الصّحف على الأنبياء مسطورة، وأنزل الألواح على موسى عليه السلام مكتوبة، لكان فيه كفاية.