قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها، حتّى عدّت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها، والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب، والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم؛ وهم أهل الفصاحة واللّسن والخطابة والشّعر.
أما زمان بني العباس، فإن الهمم تقاصرت عمّا كانت مقبلة على تطلّبه فيما تقدّم من العلوم المقدّم ذكرها، وشغلت بغيرها من علوم الدين؛ ونزل ملوكهم ديار العراق وما يجاورها من بلاد فارس، وليس استفاضة لغة العرب فيها كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. ومن المعلوم أن القوم الذين كانوا يكاتبون عنهم لا يجارون تلك الطبقة في الفصاحة والمعرفة بدلالات الكلام؛ فانتقل كتّابها من اللفظ المتين الجزل، إلى اللفظ الرّقيق السّهل، وكذلك انتقل متأخّر والكتّاب عن ألفاظ المتقدّمين إلى ما هو أعذب منها وأخفّ، للمعنى المتقدّم ذكره.
قال: وحينئذ ينبغي للكاتب أن يراعى هذه الأحوال، ويوقع المشاكلة بين ما يكتبه وبينها، فإذا احتاج إلى إصدار كتاب إلى ناحية من النواحي، فلينظر في أحوال قاطنيها؛ فإن كانوا من الأدباء البلغاء العارفين بنظم الكلام وتأليفه، فليودع كتابه الألفاظ الجزلة، التي إذا حلّيت بها المعاني زادتها فخامة في القلوب، وجلالة في الصّدور، وإن كانوا ممن لا يفرّق بين خاص الكلام وعامّه، فليضمّن كتابه الألفاظ التي يتساوى سامعوها في إدراك معانيها، فإنه متى عدل عن ذلك ضاع كلامه، ولم يصل معنى ما كتب فيه إلى من كاتبه؛ لأن الكلام البليغ إنما هو موضوع بإزاء أفهام البلغاء والفصحاء، فأما العوامّ والحشوة «١» ، فإنما يصل إلى أفهامهم الكلام العاطل من حلى النّظم، العاري من كسوة التأليف، فيجب على الكاتب أن يستعمل في مخاطبة من هذه صورته أدنى رتب البلاغة وأقربها من أفهام العامة والأمم الأعجميّة إذا كتب إليهم.
ثم قال: فأما الكتب المعتدّة عن السلطان، فإنّ منها كتب الفتوحات